لماذا تأخر ظهور المصلوب خمسة قرون؟

محمود الزيباوي

الثلاثاء 2019/04/23
كما في كل عام، تعود صورة المسيح المصلوب مع حلول عيد الفصح، وتتكرّر في أشكال متعدّدة. تبدو هذه الصورة متجذّرة في الذاكرة، غير انها في الواقع تكوّنت ببطء، ولم تأخذ شكلها المألوف إلا بعد مرور قرون من الزمن.

يشكّل صلب المسيح أساس العقيدة المسيحية، ولا ينفصل عن قيامته وصعوده إلى السماء. مع بزوغ الفن المسيحي الأول في نهايات القرن الثاني، ظهر الصليب وتحوّل إلى رمز للمسيحية، لكن صورة المصلوب ظلت غائبة عنه. جعلت الكنيسة من خشبة الصليب رمزاً للانتصار على الموت، ورأت فيه شجرة الحياة الجديدة التي لا تذبل أبداَ، وجسّد الصليب العاري هذه الرؤيا.

كتب بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنتوس: "نحن نكرز بالمسيح مصلوبا: لليهود عثرة، ولليونانيين جهالة. وأما للمدعوين: يهودا ويونانيين، فبالمسيح قوة الله وحكمة الله" (23-24). وقال في رسالته الثانية: "أتيت ليس بسمو الكلام أو الحكمة مناديا لكم بشهادة الله، لأني لم أعزم أن أعرف شيئا بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوبا" (1-2).

شدّدت الكنيسة على حقيقة هذا الصلب، وحاربت المذاهب التي تمسّ بهذا الحدث، غير ان صورة المصلوب بقيت غائبة عن فنونها بشكل كامل. ظهر الصليب بشكله المجرّد، وتجدّد في أشكال لا تحصى، وأضحى إشارة لـ"قوة الله وحكمة الله"، وبقي حضور المصلوب "سرياً"، كما يشهد الميراث الفني المسيحي الأول بفروعه المتعددة.

ظهر المسيح المصلوب بشكل خفر بين القرنين الخامس والسادس، ودلالات هذا الظهور نادرة للغاية، منها قطعة عاجية محفوظة في المتحف البريطاني، وقطعة خشبية من التي تزين باب كنيسة القديسة سابينا في روما، ومنمنمة من مخطوط سرياني محفوظ في المكتبة اللورنزية في فلورنسا. تمثل هذه الصور ثلاثة نماذج تختلف كليا في تأليفها، غير أن النموذج الذي تتبناه المنمنمة السريانية يستند كما يبدو إلى تقليد متين، إذ انه يتكرّر بشكل شبه كامل في عدد محدود من الصور في أقاليم عدة من العالم المسيحي الشاسع، في المرحلة الممتدة من القرن السادس إلى القرن العاشر. ومن هنا يمكن القول إن هذه المنمنمة السريانية تمثّل أقدم نموذج مؤرخ معروف لصورة المسيح المصلوب في الفن البيزنطي الأول.

تعود هذه المنمنمة إلى مخطوط يُعرَف باسم "انجيل ربولا"، وربولا هو الخطّاط الذي خطّه سنة 586 في دير مار يوحنا في بيت زغبا، كما جاء في الكتابة المطوّلة المدوّنة في الصفحة الأخيرة من المخطوط. وقد احتار البحاثة في تحديد موقع بيت زغبا الجغرافي، فرأى البعض أنها في غرب الفرات، ورأى البعض الآخر أنها في شمال سوريا، في منطقة جبل ريحا قرب أفاميا، وتبيّن أخيرا أن الرأي الثاني هو الصائب. تتألف اللوحة من جزءين لا يفصل بينهما سوى خيط رفيع خالٍ من أي لون. الجزء الأعلى مخصّص لواقعة الصلب، أما الثاني فللقيامة. يظهر المسيح في القسم الأعلى مصلوبا وسط رجلين مصلوبين، وفقاً لرواية الإنجيل التي تقول ان لصّين صُلبا مع المسيح، "واحد عن اليمين وواحد عن اليسار" (متى 27، 44). هيكليّة التأليف تعتمد على الصليب الذي يحتلّ صدر التأليف في خطّيه الأفقي والعمودي.

موقع الحادثة سهل عسلي اللون يرتسم من ورائه جبل مؤلف من هضبتين ترتفعان بشكل متناسق فوق رأسي اللصَّين. يرتفع رأس المسيح بين الهضبتين، وهو محاط بهالة ترمز إلى قداسته، تعلوها كتابة سريانية تقول "هذا ملك اليهود"، وهي العبارة التهكّمية التي تُجمع الأناجيل الأربعة على ذكرها. عند طرفي هذه الكتابة نرى قرصين صغيرين يرمزان إلى كوكبي النهار والليل، الشمس والقمر. اللصان مقيّدان فوق الصليب بحبل يلتف فوق الصدر العاري على شكل حرف "اكس" اللاتيني، أما لباسهما فيقتصر على قطعة من القماش الأبيض تخفي الحوض والقسم الأعلى من الساقين. يتجاوز المصوّر النص الكتابي ليُلبِس المسيح رداء طويلا يميّزه بشكل واضح عن اللصَّين المصلوبين. يبسط يسوع ذراعيه فوق خشبة الصليب. تسيل الدماء من يديه ومن قدميه، لكن تعابير الألم غائبة تماما. يفتح السيّد عينيه حانيا رأسه في اتجاه اليمين فيطل سيدا على موته، متسربلا بمجد القيامة الآتية.

عند قدم الصليب نرى ثلاثة رجال يتحاورون وهم متربّعون على الأرض وفي وسطهم قطعة قماش مثنية. يمثّل المشهد حادثة اقتسام الجنود لثياب المسيح واقتراعهم عليها بعد صلبه وفقاً لما جاء في الأناجيل الأربعة. خلف هؤلاء الجنود نرى رجلين واقفين يرفع كل منهما قضيباً في اتجاه المسيح بشكلٍ متوازٍ. يلبس الواقف عن يسار المسيح رداء ابيض ويحمل بيمناه سطلاً أحمر القاع. هو الرجل الذي أخذ اسفنجة وبلّلها بالخلّ قبل أن يجعلها على طرف قصبة ليسقي بها المسيح العطشان بحسب ما جاء في الأناجيل. في الجهة المقابلة، يظهر الرجل الثاني باللباس الخاص بالجنود الرومان، طاعناً برمحه جنب المسيح. يتجاوز المصوّر ظاهر النص ليسلط النور على دلالات الحدث. وفقا لشهادة يوحنا (19، 34)، تأتي هذه الحادثة بعد أن أسلم المسيح الروح. في منمنمة "انجيل ربولا"، يظهر يسوع حياً فوق الخشبة كأنه لا يشعر بالدم المنسكب من جنبه المفتوح. لا تنأى الصورة عن نقل معالم الألم إلا لتظهر ثمارها. مات المسيح ليغلب الموت، وكما عبّر بولس الرسول: "لن يموت بعد ذلك ولن يكون للموت عليه سلطان"(رومة 6، 9). فوق هامة الجندي كتابة باليونانيّة تسمّي لونجينوس. لا نجد ذكرا لهذا الاسم في الأناجيل، لكنه في التراث المسيحي قائد المئة الذي آمن عند سماعه صرخة المسيح الأخيرة، فترك الجيش وسار على خطى الرسل، ونال إكليل الشهادة.


عند الطرف الأيمن، تحضر مريم العذراء ومعها يوحنا الحبيب، كما جاء في إنجيل يوحنا (19، 26). وتتفرّد العذراء بكونها مكّللة بهالة مماثلة لهالة المسيح. في الطرف المقابل، تقف ثلاث نساء ملامحهن واحدة ولباسهن واحد، وهنّ على الأرجح مريم أم يعقوب، مريم امرأة قلوبا ومريم المجدليّة. يذكر متى الأولى (27، 56) ويذكر يوحنا الثانية (19، 25)، ويجمع الاثنان على ذكر الثالثة. تتوجّه الوجوه والعيون كلّها نحو المسيح. يقتصر التعبير عن الألم على حركة الأيدي المرفوعة. تنتصب القامات بسموّ وتؤلف جوقة واحدة تتطلع بحنوّ نحو سيّدها.

نجد صورة مماثلة لصلب المسيح على غطاء صندوق ذخيرة من محفوظات متحف الفاتيكان، يعود بحسب أهل الاختصاص إلى القرن السادس، ومصدره سوريا أو فلسطين. يظهر المسيح في الوسط بلباسه الطويل بين اللصَّين العاريَين، ويظهر من حوله الجندي الذي يطعنه بحربة، والجندي الذي يمد له الإسفنجة المملوءة بالخل. عن يمين السيد، تقف العذراء، وعن يساره يقف يوحنا الحبيب. كما في المنمنمة السريانية، يجري الحدث في سهل يرتسم من ورائه جبل مؤلف من هضبتين. كذلك، تحضر صورة المسيح المصلوب بلباسه الطويل وسط اللصين العاريين في أيقونة فلسطينية تعود إلى الحقبة الأموية، وهي من محفوظات دير القديسة كاترينا في سيناء. في أسفل الصليب، يحضر مشهد الاقتراع على ثياب المسيح، وفي القسم الأعلى تظهر كوكبة من الملائكة تشهد الحدث بحضور الشمس والقمر. عند يمين السيد تقف العذراء، وعن يساره تلميذه الحبيب، ويرفع الاثنان أعينهما في اتجاهه. يُغمض هنا المسيح عينيه، ويظهر على وجهه شيء من علامات الألم الخفر. الكتابات اليونانية المرفقة تسمّي سائر الحاضرين في الصورة.

في روما، في الكنيسة المعروفة باسم "كنيسة القديسة مريم الأثرية"، تحضر هذه الصورة في جدارية كبيرة من القرن الثامن يغيب عنها مشهد اقتراع الثياب وكوكبة الملائكة. الكتابات المرفقة لاتينية، وتسمّي مريم العذراء ويوحنا ولونجينوس. كما في منمنمة انجيل برنابا، يفتح المسيح عينيه الواسعتين محدّقا في المدى، وتغيب عن وجهه أي علامة من علامات الألم. في القسطنطينية، يتكرر هذا النموذج في منمنمتين من مخطوط من محفوظات "متحف موسكو التاريخي" يعود إلى نهاية القرن التاسع. في المنمنة الأولى، يظهر المسيح بين اللصين أمام حشد كبير من الحاضرين، ويحوط برأسه الشمس والقمر. وفي الثانية، يظهر من حوله حامل الإسفنجة وحامل الرمح وفقا للتأليف التقليدي. يغيب مريم العذراء ويوحنا الحبيب عن المنمنمتين، ويحضران من جديد على غطاء صندوق ذخيرة يعود إلى الحقبة نفسها، وهو من محفوظات متحف متروبوليتان للفنون، ومصدره كذلك مدينة القسطنطينية.

إلى جانب هذه النماذج، يحضر المسيح المصلوب بلباسه الطويل على عدد من الحلي، أقدمها صليب مذهّب يعرف بـ"صليب غريغوريوس الكبير"، وهو من محفوظات متحف كاتدرائية مونزا في شمال إيطاليا، ويظهر مريم العذراء ويوحنا الحبيب عند طرفي هذا الصليب بشكل مختزل. يجمع البحاثة على القول بأن هذه الصور المتعددة تستعيد في الأصل لوحة ميدانية كبيرة، هي على الأرجح إحدى اللوحات التي كانت تزين في ما مضى كنيسة القيامة في القدس. ويُفسّر هذا الافتراض إطلاق تسمية "المسيح الفلسطيني" على نموذج المسيح المصلوب بلباسه الطويل.

في أيقونة من محفوظات دير القديسة كاترينا تعود إلى نهاية القرن التاسع، يظهر المسيح عاريا على الصليب، مغمضا عينيه، حانيا رأسه في اتجاه أمه. لا تشيح الصورة عن تعابير الحزن والألم، لكنها تسكب عليها النور وتكلّلها بسكينة الرجاء. يحلّ هذا النموذج "الجديد" في مطلع الألفية الثانية، ويغيب نموذج "المسيحي الفلسطيني". تتكرر صور المصلوب العاري، وتتعدد تجليّاتها طوال القرون الوسطى في الشرق كما في الغرب.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024