هل ذهب الربيع العربي بلا رجعة؟..زيارة إلى دولابويسي وهافل

سامي حسن

الأربعاء 2021/02/17
على رغم ما أبدته الشعوب العربية من اندفاعة قوية وكفاحية عالية ومشاركة واسعة في ثوراتها، إلا أن أنظمتها المستبدة، التي حكمت بالحديد والنار، تمكنت من إفشال تلك الثورات، سواء بحرفها عن مساراتها والالتفاف على أهدافها، أو بالانقلاب الصريح عليها.

الثورتان التونسية والمصرية، نجحتا في إحداث تغيير مهم على مستوى رأس النظام، حيث أجبر بن علي في تونس، ومبارك في مصر، على مغادرة السلطة. لكن النظام كنظام، لم يطاوله التغيير، وحافظت المؤسسة العسكرية (الجيش والأمن) على سلطتها وسيطرتها، لا سيما في مصر، الأمر الذي مكنها من الانقضاض على الثورة. في ليبيا، قتل رئيسها القذافي، ونشبت فيها حرب أهلية مازالت مستمرة حتى الآن، حالها في ذلك حال اليمن. وفي السودان، أثمر ربيعها أخيراً عن إطاحة رأس النظام عمر البشير، مع استمرار حضور الجيش في السلطة والمشهد السياسي. أما في سوريا، فقد تمكن النظام الأسدي، وقوى عربية وإقليمية، من تحويل ثورة السوريين السلمية إلى صراع مسلح. ولم يسقط النظام، على رغم مرور 10 أعوام على اندلاع الثورة، وعلى رغم تدميره سوريا واعتقال وقتل وتهجير الملايين من أبنائها!

لكن، هل ذهب الربيع العربي إلى غير رجعة، أم أن أسباب اندلاعه ما زالت قائمة، وتفتحه من جديد وارداً في أي لحظة؟ كيف يمكن للناس أن يتجرأوا مرة أخرى على طواغيتهم؟ وفي حال حصل ذلك، كيف يمكن ضمان عدم ارتكاس الثورات هذه المرة؟

في الحديث عن الربيع العربي وإخفاقاته وآفاقه، والاستبداد ومواجهته، والحرية وسبل الظفر بها، قد يكون مفيداً استحضار كتابين: الأول "العبودية المختارة" لـإيتيان دولابويسي، والثاني "قوة المستضعفين" للرئيس التشيكي الأسبق الكاتب فاتسلاف هافل.

على رغم مرور أكثر من أربعة قرون على كتاب دولابويسي ، وهو مقال نشر في العام  1576، إلا أن مقاربته لموضوع الاستبداد والطغيان مازالت  تحتفظ براهنيتها. يبين المقال أن خضوع الناس، لا قوة الطاغية، هو الذي يؤسس للطغيان. إذ يكفي عدم التجاوب مع الطاغية وعدم الخضوع له، كي يهزم. فالناس، بحسب الكاتب، هي التي تسلس القيادة لمضطهديها، ولو كف الناس عن خدمة الطغاة، لضمنت خلاصها: "يكفي ألا نمد النار بالحطب لكي تخبو". ويشير الكاتب إلى أن أحد أساليب الطغاة للسيطرة على الناس هي إلهاؤهم بقضايا سخيفة، وإعطاء الطاغية صفات خارقة، وإحاطته بهالة من القداسة، الأمر الذي تساهم فيه ندرة ظهوره على الناس. أليس هذا هو واقع الحال اليوم في بلداننا، حيث تنتشر ثقافة الاستهلاك، ويصدع إعلام الطغاة رؤوسنا، في الحديث عن عبقرية هذا الحاكم أو ذاك؟!

لعل من أهم ما جاء عليه الكتاب هو توضيحه البنية الهرمية للطغيان، التي يبدأ تشكلها من الطاغية كرأس للهرم، بينما تتشكل قاعدته من المقربين والمساعدين المستفيدين من حكم الطاغية. وهؤلاء لهم أتباعهم المستفيدون الذين تتسع بهم قاعدة الهرم، وهكذا حتى نصل إلى ملايين الأتباع الخاضعين للطاغية والمستفيدين منه، والذين لهم مصلحة في استمرار حكمه.

في كتابه "قوة المستضعفين"، الصادر في العام 1978، يتحدث هافل عن طبيعة النظام الاستبدادي الشمولي وبنيته وآليات مواجهته. يرى هافل، أن الكذب هو إحدى ميزات النظام الشمولي، لكن هذا النظام، لا يطلب من الناس أن تصدق أكاذيبه التي يروجها، بل أن يتصرفوا وكأنهم يصدقونها. أن يقبلوا العيش في ظل هذه الأكاذيب. أن يعلنوا الولاء والطاعة، ويتماهوا مع ايديولوجية السلطة، وأن يتحولوا إلى "بَراغٍ" في ماكينة النظام الشمولي، ويساهموا، بوعي أم بغير وعي، في حركتها وصيانتها. في هذا السياق، يأتي تعليق صور الديكتاتور، وإقامة تماثيله، في كل مكان. صحيح أنها تُفرض على الناس، لكن في الوقت نفسه، هناك من يبادر إلى ذلك، من دون طلب من أحد، للتعبير عن الولاء والطاعة والرضوخ. هكذا يتوحد المجتمع في الخضوع والاستعباد، ويتورط الجميع في النظام الشمولي، ويصبحون جزءاً من بُنيته ومكوناته. كأن هافل، هنا، يتحدث عن واقعنا العربي، وعن صور الزعماء المعلقة على الجدران في المنشآت والوزارات والمدارس، وعن  تماثيلهم المنصوبة في الساحات؟!

تأسيساً على فكرة أن مستقبل الثورات مرتبط بالطريقة التي تحصل فيها، يشدد الكاتب، في موضوع مواجهة الأنظمة المستبدة، على أهمية تجنب العنف، الذي تفضله تلك الأنظمة، وتجيد استخدامه، ويمكّنها من سحق معارضيها. وينصح باتباع أساليب المواجهة السلمية، والانطلاق من عدم الرضوخ للنظام وأكاذيبه، وعدم تنفيذ تعليماته ورغباته، ومواجهة ثقافته، والجهر بالحقيقة. وعليه، وفي مواجهة النظام المستبد الشمولي "فإن كل مظهر من مظاهر الحرية يهدده سياسياً بطريقة مباشرة"، من تنظيم الحفلات الموسيقية، والأمسيات الأدبية، وطباعة الكتب الممنوعة، وعدم تعليق صور المستبدين، ومقاطعة الانتخابات، إلى العصيان والاعتصام والتظاهر، وتشكيل هياكل اجتماعية وثقافية موازية لهياكل الدولة الشمولية، ترتبط بضروريات الحياة، والحاجات الأساسية للبشر.

تخبرنا تجارب الشعوب أنه لا وصفة جاهزة للثورات، التي غالباً ما تأتي، بلا استئذان. هذا ما حصل بالأمس، في تونس ومصر وسوريا وغيرها، وهذا ما يمكن أن يحصل غداً. ومع ذلك، تؤكد تجارب ثورات الربيع العربي، أن مواجهة الاستبداد بالعنف، الذي لم يكن غالباً خيار الشعوب، وإنما دُفعت إليه، أدى إلى نتائج كارثية، مقارنة مع ضريبة مواجهته بالوسائل السلمية. وأن الحكمة تقتضي، استبعاد العنف من قاموس الثورات، والمراكمة التدريجية للنضالات السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، المدنية، المطلبية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024