قصر هشام مرمّماً في أريحا.. وزينتُه في "متحف إسرائيل"

محمود الزيباوي

الثلاثاء 2021/11/09
أعلنت وزارة السياحة الفلسطينية افتتاح موقع قصر هشام الأموي في مدينة أريحا بالضفة الغربية أمام الزوار، وذلك بعدما عملت على ترميمه وصيانته على مدى أربع سنوات. نُفّذ هذا المشروع بتمويل من الوكالة اليابانية للتعاون الدولي (جايكا)، وبلغت كلفته 12 مليون دولار، وأثمر عن الكشف عن "أكبر لوحة فسيفساء في العالم" بحسب ما جاء في الخبر الذي تناقلته وسائل الإعلام العالمية والمحلية.

عرف العالم الإسلامي في عصر الخلافة الأموية حركة عمران كبيرة تمثّلت في إنجازات عظيمة، أشهرها قبة الصخرة التي أمر ببنائها الخليفة عبد الملك بن مروان في الحرم القدسي، والمسجد الأموي الذي شيّد في دمشق في زمن الوليد بن عبد الملك. لم تقتصر هذه الحركة على المباني الدينية، بل تعدّتها لتشمل العمارة المدنية، وأبرز شواهدها "القصور الأموية" في صحارى بلاد الشام. تؤلف هذه القصور سلسلة من 34 موقعا أثرياً تتوزع اليوم بين الأردن وسوريا وفلسطين ولبنان، وتمثّل ما يُمكن وصفه بالفن الأموي المدني.

ينتسب الأمويون إلى جدّهم أمية بن عبد شمس، وهو واحد من أسياد قريش وزعيم من زعمائها في المرحلة التي سبقت ظهور الإسلام. مؤسس السلالة هو معاوية بن أبي سفيان بن حرب، الذي عيّنه الخليفة عمر بن الخطاب والياً على دمشق وخراجها، ثم أقرّه الخليفة عثمان بن عفان والياً على الشام كلها. بعد مقتل ثالث الخلفاء، رفض معاوية مبايعة علي، وتمكن من الصمود مع أنصاره أمام جيوش الخلافة، وخلت له الساحة بعد مقتل أمير المؤمنين على أيدي الخوارج، وتمكن من تولي منصب الخلافة بعد تنازل الحسن بن علي له عنها على أن تعود بعده شورى بين المسلمين، وكان ذلك العام 41هـ، وفيه شهدت الدولة الأموية ولادتها.

أسس معاوية دولة أممية تضم شعوباً وأجناساً مختلفة، وحكم على العرب والعجم، وكان ملكه على الحرمين، والشام، والعراق، والجزيرة، ومصر، وفارس، وخراسان، واليمن والمغرب، وكانت دمشق عاصمة لهذه الأمبراطورية الشاسعة. بدأت ثقافة التشييد الإسلامي تتكون في زمن الخلفاء الأمويين، ونمت هذه الثقافة بينما كان التفاعل مع الحضارات الأخرى حول الجزيرة العربية يكبر بصورة غير مسبوقة. وكان من الطبيعي أن يتأثر المسلمون بما شاهدوه وعرفوه عن كثب، وقد اعتبروا أنفسهم ورثة لمن سبقهم، وأن الله وهب أمته هذه العطايا: "كم تركوا من جنات وعيون. وزروع ومقام كريم. ونعمة كانوا فيها فاكهين. كذلك وأورثناها قوماً آخرين" (الدخان 25-28). وكما نهل الفن المسيحي الأول من الفنون الرومانية بروافدها الغربية والشرقية قبل أن يؤسس للغة خاصة به، أخذ الفن الأموي من الفنون الرومانية والبيزنطية والفارسية، واستعار الكثير من تعابيرها قبل أن يعيد خلقها في قالب جديد يشهد لروحه ورؤياه الخاصة. ويتجلّى هذا الخليط الذي ميّز الفن الإسلامي الأوّل في زينة ما عُرف بـ "القصور الأموية"، وهي المباني غير الدينية العديدة التي نجح علماء الآثار في الكشف عنها في القرن الماضي.

في الذاكرة الجماعية الإسلامية، يرتبط اسم الأمويين بالمساجد العظيمة التي شيّدها خلفاء هذه السلالة على مدى ما يقارب القرن من الزمن، ونعرف من هذه المساجد عشرين في بلاد الشام، أشهرها قاطبة الجامع الأموي الذي بُني في عهد الوليد بن عبد الملك. وصفه المقدسي البشاري في "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" بأنه "أحسن شيء للمسلمين اليوم"، وقال إن حيطانه مكسوة "إلى قامتين بالرخام المجزع، ثم إلى السقف بالفسافساء الملونة"، وفيها "صور أشجار وأمصار"، ونقل ما رُوي عن سخاء الخليفة في بنائه، ومنه أنه "جمع لبنائه حذّاق فارس والهند والمغرب والروم، وأنفق عليه خراج الشام سبع سنين مع ثماني عشرة سفينة ذهب وفضة أقلعت من قبرص، سوى ما أهدى إليه ملك الروم من الآلات والفسافساء". وفي زمن سبق بناء مسجد دمشق، شيّد عبد الملك بن مروان قبّة الصخرة في حرم المسجد الأقصى في القدس التي اشتهرت بزينتها الفسيفسائية التي تلفّ مسافة تُقدر بمئتين وأربعين متراً مربعاً.

العمارة المدنية
في المقابل، يُجمع المتخصصون في الفن الإسلامي على القول بأن خلفاء بني أمية أولوا العمارة المدنية عناية فائقة، وخير دليل على ذلك مجموعة المباني المهجورة التي وُصفت بالقصور، ويبلغ عددها زهاء أربعين قصرا توزعت على أراضي بلاد الشام، وأشهرها قصير عمرة في الأردن، وقصر هشام في فلسطين، وقصر الحير الغربي في سوريا. وتعود شهرة هذه المباني إلى ما تحويه من زينة داخلية غنية، منها ما هو مرسوم، ومنها ما هو منحوت، ومنها ما يعتمد على تقنية الفسيفساء. يقع قصير عمرة في وادي البطم، شرق عمان، وأول من ألقى الضوء عليه العالِم النمسوي المجري ألوييس موزيل الذي ترأس بعثة قدمت في نهاية القرن التاسع عشر إلى الأردن بإيعاز من أكاديمية فيينا. تعرّف العلماء الى رسوم جداريات القصير التي تمتد على مدى ثلاثمئة وخمسين مترا مربعا عبر نسخ توثيقية أنجزها الرسام ألفونس ميليخ، وتشكل هذه الرسوم اليوم أكبر برنامج إيقونوغرافي مدني معروف من الألفية الأولى في العالم المتوسطي، بأقاليمه الوثنية والمسيحية والإسلامية.

في المقابل، خرج قصر هشام من الظلمة إلى النور في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، يوم شرعت الجمعية الانكليزية المعروفة باسم "صندوق استكشاف فلسطين" بالبحث عن آثار "الأراضي المقدّسة" المسيحية، وقادها بعض السكان العرب إلى خربة تقع على بعض كيلومترات من شمال مدينة أريحا تُعرف باسم خربة المفجر. في 1894، أرسلت الجمعية عالم الآثار الأميركي فريديريك جون بليس إلى هذا الموقع لإجراء بحث تمهيدي، فزار الموقع، وكتب تقريراً أوليّاً صدر في النشرة الخاصة بهذه الجمعية، مع مجموعة من الصور تمثّل عينة من الزخارف الجصية التي عثر عليها. في عهد الانتداب البريطاني، شرعت دائرة الآثار في دراسة الموقع في العام 1934، وقامت بإجراء الحفريات الأثرية على مدى 12 عاماً، وتوقّفت أعمالها في 1948.

أشرف على هذه الحفريات، الدكتور ديمتري برامكي، الذي كان آنذاك مفتشاً وباحثاً في دائرة الآثار، وقد وصف نتائج التنقيب في سلسلة من التقارير صدرت تباعاً في النشرة العلمية الخاصة بدائرة الآثار في فلسطين. خلال الحفريات التي أجراها بين العامين 1936 و1937، عثر هذا الباحث على لوح مكسور من المرمر يحمل اسم هشام بن عبد الملك، عاشر خلفاء بني أمية الذي حكم من العام 724 إلى 743، وأُطلق على الموقع اسم "قصر هشام"، وأظهرت الدراسات اللاحقة ان الموقع يعود فعلا إلى عهد الخليفة هشام بن عبد الملك، وقد استمرّت حركة البناء فيه بعد وفاة الخليفة إلى أن تعرّض غور الأردن لزلزال ضخم العام 746. والأرجح أن القصر والحمام اللذين يشكلان نواة الثقل فيه يعودان على الأرجح إلى عهد الوليد بن يزيد الذي خلف عمه هشام.

دمّر الزلزال هذا المجمع الضخم، إلا ان الأتربة والأنقاض المتراكمة حفظت الفسيفساء التي تزيّن أرض حمّامه الكبير، كما حفظت الكثير من زينته. تحتل هذه الفسيفساء مساحة 835 متراً مربعاً، وتتألف من 38 سجادة فسيفسائية تشكل كلها مع بعضها أرضية جامعة، واللافت أنها تتبنى طابعا تجريديا صرفا، مع احتوائها على عناصر تشكيلية نباتية حوّرت بشكل هندسي في الجهة الشمالية لهذه الأرضية الضخمة، حيث يقع ما يُعرف بديوان الخليفة، وفيه نجد لوحا فسيفسائيا تجريديا يحدّه لوح آخر يحمل تأليفا تصويريا قوامه شجرة برتقال كبيرة. وعند جذع هذه الشجرة، يظهر من جهة أسد يفترس غزالاً، وفي الجهة الأخرى يظهر غزالان يرتعان بسلام.

المتحف الحديث
في العام 1959، نشر العالم البريطاني روبرت هاملتون بمشاركة العالم الفرنسي أوليغ غرابار كتابا خاصا بهذا الموقع حوى رسوما توثيقية خاصة بهذه الفسيفساء، وفي 2015، نشر الباحث الفلسطيني حمدان طه مجلدا خاصا بهذه الفسيفساء، وذلك بعد قيامه بحملة لتصويرها بشكل كامل في 2010، مع فريق محلّي ضم أربعة علماء من فلسطين. هكذا كشفت وزارة السياحة عن فسيفساء قصر هشام لفترة وجيزة عام 2010 ثم أعادت طمرها بغية المحافظة عليها، ثم أعادت الكشف عنها في عام 2016 لفترة وجيزة، بحيث أصبحت متاحة للسياح والزوار لمدة شهر واحد فقط. بعدها، عقدت وزارة السياحة اتفاقا مع الوكالة اليابانية للتعاون الدولي لترميم الموقع وتحديثه وتجهيزه، وأثمر هذا الاتفاق عن إعادة الكشف عن الفسيفساء بعد تأمين كل السبل لحمايتها. أقيم فوق هذه الأرضية سقف واق على شكل قبة معدنية تغطي أرضية الفسيفساء، وتقوم على أربع قواعد رئيسة مثبتة في الزوايا. كما جرى تأمين ممرات داخلية للدخول إلى الموقع، مع مسارات علوية للزوار والسياح، استناداً إلى معايير دولية تنظم مسألة الحفاظ على الآثار.

تحتفل وزارة السياحة الفلسطينية اليوم بهذا الإنجاز، إلا أن زينة القصر وحلله المنحوتة تبقى للأسف خارج الموقع. كما أشرنا، أجرت دائرة الآثار البريطانية الحفريات الأثرية في "خربة المفجر" على مدى 12 عاماً في القرن الماضي، ونقلت اكتشافاتها الأثرية إلى متحف أقامته في القدس الشرقية، وأطلقت عليه يومها اسم "متحف فلسطين للآثار" عند افتتاحه في 1938. أصبح هذا المتحف تحت إدارة المملكة الهاشمية الأردنية بعد نكبة 1948، ثمّ استولت عليه الدولة العبرية بعد هزيمة 1967، وأطلقت عليه اسم "متحف روكفلر"، نسبة إلى الثري الأميركي جون ديفيد روكفلر الابن، الذي تبرّع بمبلغ مليوني دولار لبنائه في العشرينات، وهكذا أضحى "متحف فلسطين للآثار" تابعاً لـ"متحف إسرائيل"، ومقراً لرئيس دائرة الآثار الحكومية.

في هذا المتحف، تُعرض منحوتات "قصر هشام" وفقاً لموقعها الأصلي في دار الخليفة، ومنها تمثال يمثل الخليفة يقف منتصباً على أسدين وسط تمثالين يمثلان جاريتين نصف عاريتين، إضافة إلى مجموعة كبيرة من الصور المنحوتة المتعدّدة المواضيع. وتشكل صور الملك دليلاً حياً على استمرارية هذا الفن في بلاد الشام في الحقبة الأموية.

من جهة أخرى، يحوي القصر بقايا رسوم جدارية سعى الباحث الفلسطيني توفيق دعادله إلى تحديد ملامحها الأصلية في مقالة علمية نشرت منذ عامين. للأسف، تقتصر هذه البقايا على مجموعة محدودة للغاية من اللقى المجتزأة، غير أنها تشهد كذلك لاعتماد فن التصوير الجداري في بلاد الشام في ظل حكم بني أمية. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024