"نكبة نصارى الشام" لسامي مبيّض... مجزرة لم تمضِ

المدن - ثقافة

الأحد 2020/11/29
صدر عن شركة رياض الريس كتاب "نكبة نصارى الشام/ أهل ذمة السلطنة وانتفاضة 1860" للكاتب السوري سامي مروان مبيّض، يتناول المجزرة الرهيبة التي حصلت في منطقة باب توما وبعض حارات القيمرية في صيف 1860، وراح ضحيتها على مدى سبعة أيام بلياليها ما لا يقل عن خمسة آلاف مسيحي من أصل اثنين وعشرين ألفا كانوا مقيمين داخل أسوار المدينة القديمة، بين وافد من قرى البقاع او قاطن أصيل. سميت شعبياً باسم "طوشة النصارى"، وهو لقب جائر بحسب المؤلف، لأن مسيحيي الشام لم يطوشوا، بل طاش بعض المسلمين عليهم. والمؤلف اذ يعود إلى تلك المجزرة في الذكرى الـ 60 بعد المئة، ويأتي كتابه بعدما استغرب كثيرون عودته إلى تلك الأحداث، مع طرح أسئلة "لماذا العودة الآن إلى تلك الأحداث الدامية بعدما فات عليها الزمن؟ ما الهدف من اثارتها اليوم بعد أن نسيها كل الناس؟ يجيب المؤلف أن احداً لم ينسها، بل تناساها الجميع حفاظاً على "الوحدة الوطنية"، واحتراماً لمشاعر المكوّن المسيحي التاريخي وذكرياته في مدينة دمشق، الذي كان ضحية هذه الفتنة.


يقول المؤلف أن السوريين بكل طوائفهم وخلفياتهم السياسية حاولوا "التعتيم على هذه الحقبة المظلمة من تاريخهم الحديث، ملقين اللوم في ما حدث اما على الدولة العثمانية الحاكمة يومها أو على الدول الاوروبية، رافضين الاعتراف بأن اجدادهم شاركوا في مذبحة شنيعة من هذا الحجم، يندى لها الجبين"... وبقيت الفتنة الشنيعة خارج إطار الدراسات، فلم تأت كتب التاريخ (السورية) المدرسية أو الجامعية المطبوعة حكومياً منذ نهاية الحكم العثماني وحتى يومنا هذا على ذكرها، مع العلم ان اللبنانيين كتبوا عنها في مناهجهم المدرسية منذ عام 1914، عند صدور كتاب "مختصر تاريخ لبنان" للمؤرخ لحد خاطر. ربما كان على المؤلف هنا ان يستطرد ويذكر أن الباحث الفرنسي ميشال سورا تطرق على مجازر حماة التي نفذها نظام آل الاسد، ففقد حياته في اقبية تنظيم الجهاد الاسلامي(الاسم السابق لحزب الله اليوم) بأمر من النظام السوري، فهل سيكون للمؤلف فرصة البحث عن سردية تلك المجازر وما تبعها في الحرب الأخيرة، وهو يقول في المقدمة ان تلك الاحداث (اي فتنة 1860) غيرت مدينة دمشق والمدن التابعة لها والقريبة منها. لقد غيرت تلك الاحداث مدينة دمشق جذرياً وكشفت عن "خلل رهيب في بنيتها الاجتماعية والسياسية والطائفية، حان الوقت للرجوع إليها اليوم، بعد كل هذه المذابح التي تعرضت لها سوريا اخيراً. فمجازر اليوم خير دليل على أننا لم نتعلم شيئا من احداث 1860، وما زلنا كما كنا في منتصف القرن التاسع عشر، مجتمعا قبلياً قابلاً للانحراف نحو الهاوية".


بالمختصر، لعقود كان التاريخ في سوريا يستعمل على طريقة مسلسل "باب الحارة" أو المسلسلات التاريخية البائسة، لقطات فلكلورية وعنتريات وهمية، يتفق النظام الأسدي مع النظام التركي فيمحو سجله الاسود من كتب تاريخه، يقع الخلاف فتكثر المسلسلات ضد الزمن العثماني والزمن الفرنسي، في المقابل لم تحصل في سورية أي مصارحة وطنية حول فتنة 1860، "بقي الموضوع مطوياً، لا يقترب منه إلا قلة من المؤرخين السوريين، مثل العلامة الدكتور عبد الكريم رافق، الذي وضع ابحاثا قيمة للغاية عن هذا الموضوع"، والباحث عبدالله حنا، والباحث المختص باحداث الستين، إلياس بولاد. ولم يشيّد أي نصب تذكاري في دمشق لشهداء 1860، اسوة بشهداء ساحة المرجة مثلاً، الذين اعدمهم الحاكم العثماني جمال باشا خلال الحرب العالمية الاولى، ولم يسم اي شارع او ساحة عامة باسمائهم. حتى الرواية الدمشقية لتلك الاحداث، بشقيها المسيحي والمسلم، بقيت في طيّ الكتمان والنسيان القسري. فرئيس الوزراء فارس الخوري مثلا، الذي فقد جده لأمه في هذا الاحداث لم يأت على ذكرها... لكن الكثيرين من الشهود المعاصرين كتبوا عن الفتنة باسهاب، مثل قاضي دمشق الشرعي محمد سعيد الاسطواني، ومحمد ابو سعود الحسيبي، أحد الاعيان المعتقلين على اثر تلك الاحداث، والطبيب البروتستانتي ميخائيل مشاقة، صاحب الكتاب الشهير "مشهد العيان بحوادث سورية ولبنان" الذي وضع عام 1873...

يسرد المؤلف وقائع فتنة 1860 وتداعياتها والتحولات التي طرأت بعدها، والتدابير التي اتخذت بشأنها، ودور عبد القادر الجزائري في حماية المسيحيين، في مرحلة كانت سوريا تشهد من يسمى "سياسة القناصل"، ويطرح اسئلة للتاريخ تعكس الواقع الراهن... يضع الفرضيات التي كانت مسببة للفتنة والاحداث الرهيبة بدءاً من طرق حكم والي الشام العثماني احمد عزت باشا الذي شارك في تأجيج المشاعر الطائفية بعدم ضبطها، مرورا بالفرضية الاوروبية التي تقول بأن الاوروبيين كانوا وراء ما حدث في دمشق بسبب خلافاتهم مع السلطان العثماني. العلاقة بين الدولة والمسيحيين كانت منظمة تنظيماً دقيقاً عبر قانون نظام الملل، ولو طبقه الولاة بنحو عادل ومنظم، لما كان من داع لاعطاء الاوروبيين حق "الحماية" للمسيحيين، التي اغضبت المسلمين وكرست الاحقاد والدسائس ضد المكوّن المسيحي في المجتمع. ثم جاءت الامتيازات التي انتزعتها الدول الاوروبية من السلطان العثماني، وكانت أخطر من نظام الحماية، واعطت القناصل حقوقا كثيرة، وكان من بينها التدخل في الشؤون السياسة اليومية.
وهناك فرضية تقول ان الروم الارثوذوكس كانوا المستهدفين الحقيقيين، وليس كل المسيحيين، لكونهم سكان هذا المشرق الاصليين، وهذا كلام صحيح بالنسبة إلى مسيحيي البلقان واليونان، لا سوريا، أما نظرية أن الاوروبيين ارادوا فتنة الستين للتخلص من الصناعات المسيحية الدمشقية لأنها تهدد اقتصاداتهم، فهي قائمة أيضاً بحسب المؤلف. والاحتمال الاخير، هو فرضية الأرض الخصبة الحاضرة في كل انواع الفتن، فهو قائم، وخير دليل على ذلك هو كل ما حدث في سورية خلال السنوات القليلة الماضية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024