سكّر أحمد عبد الله

أحمد ناجي

الخميس 2019/01/10
ليس هذا مقالاً في النقد السينمائي، بل رسالة في الصداقة والكتابة والسينما، واعترافاً مُتجدداً بالحب لصديق جمعنا حب الكتابة، والفن، والموسيقى، والقلق الدائم، مثل الجالس على بيضة تمساح منتظراً ما لا يأتي. لذا أعتذر عن غياب الحيادية والموضوعية، والميل الجارف إلى المبالغة الطافحة من ثنايا النص.


للقلب أحكام، وليست العلاقات الانسانية ولا التفضيلات الفنية مبنية على حسابات عقلانية أبداً، وإلا ما كان الحب ليولد ويموت بلا أسباب، وما انفقنا العُمر في مطاردات أشباح الفن وأوهامه.

من بين جميع الأصدقاء الذين عرفتهم من الإنترنت، لأحمد عبد الله محبة خاصة. فعلى عكس الجميع، لم نلتق صدفة أو ضمن جماعة، بل اندفعتُ مُحاولاً التعرف عليه بدافع الغيرة الشديدة من حلاوة كتابته. مَن يعرفه الجميع مخرجاً سينمائياً الآن، كان، قبل عشر سنوات، يكتب بإسم سري مستعار -لا يمكنني الافصاح عنه- في مدونة شهيرة. وفي زمن المدونات، حيث عشرات النصوص المختلفة تُنشر يومياً، أحببت منها الكثير وتعرفت بسببها على عشرات الكتّاب المميزين والأصدقاء، كانت كتابة أحمد هي التي تمنيتُ أن اكتب مثلها يوماً، وفشلتُ دائماً في الاقتراب منها. والحمد لله، توقف عن الكتابة والنشر، وأنهى وجود مدونته لكي يترك المجال الأدبي لمحاولاتي العشوائية.

لأحمد وجوه متعددة، بعضها معلن، وبعضها سرّي. هو العازف الموسيقي، وأحياناً الملحن الذي درس الموسيقي لسنوات ثم هجرها إلى غرفة المونتاج. هو الكاتب السري الذي لا يفصح ولا يكشف نصوصه، الخباز الذي يهوى صنع خبزه بنفسه، والمصور الفوتوغرافي الذي يستخدم الكاميرات القديمة والأفلام المعاد تدويرها، وأخيراً المخرج السينمائي الذي قدم خمسة أفلام آخرها يعرض حالياً "ليل/خارجي".

التقينا للمرة الأولى منذ أكثر من عشر سنوات، في أحد المقاهي المظلمة. في هذا الوقت، كنت أنهي روايتي الأولى "روجرز"، وكان ينهي كتابة مشروعه الأول "هليوبوليس". تبادلنا المسودات، استغرب مما كتبته، واندهشتُ أنا اكثر من السيناريو الذي أرسله. لم يكن سيناريو بل صفحات قليلة، أشبه بخطّة وتصوّر. وسيتحول ذلك منهجاً لعمله. في كل فيلم، لا يترك للممثلين سوى فرصة محدودة لقراءة السيناريو، ثم يسحب منهم الورق ويقودهم في عملية خلق الشخصية وحوارها. وفي روايتي الأولى، لم تكن هناك حدوتة، ولا خط زمني، وبالطبع ودائماً لا دراما.

التقينا في التجريب. كل في مساره. طريق معقد وطويل، لكن لم يكن في الإمكان اتخاذ مسار آخر.

لم أكتب عن أفلام أحمد عبد الله، لأني شعرت دائماً أني جزء منها. كل فيلم لأحمد هو فيلم عن أحمد وأصدقائه، وعلاقاته الشخصية، وقصص الانتصارات الصغيرة والهزائم الكبيرة.

لكن عالم أحمد السينمائي ليس مغلقاً على ذاته الحزينة، كما يصف نفسه دائماً، بل هو منفتح على المدينة وهو الشغوف بجنون بها، والبلد التي يُصرّ على الحياة فيها، وأن يكون جزءاً من هديرها. بالتالي، وسط قصصه الشخصية التي تمتلئ بها أفلامه، هناك الواقع السياسي والاجتماعي الحاضر في التفاصيل، والمحرك لمسار الشخصيات. لكن حضور الواقع الاجتماعي والسياسي لا يأتي بدافع الرصد والتأريخ الاجتماعي، على طريقة جيل عاطف الطبيب ومحمد خان، بل يأتي ببساطة لأنه جزء من حياة صانع الفيلم ومؤثر في اختياراته الفنية والإنتاجية.

جيل سينما التأريخ الاجتماعي، بعد ثورة يناير مثلاً، حذروا من مغبة صنع فيلم عن الثورة. كان النقاش الدائر وقتها أنه لا يجوز صنع فيلم أو فن عن الثورة لأن الثورة لا تزال تحدث، الثورة مستمرة ولا نزال في خضمها. يقف هذا النوع من الفنانين فوق منصة التنوير والأستاذية، الفن بالنسبة إليهم خطاب مكتمل الرؤية عن العالم، يسرده الفنان على الجمهور ليمتعهم ويثقفهم وينوّرهم.


صنع أحمد أفلاماً عديدة عن الثورة، أفلام لا تؤرخ للثورة او ترصدها، بل هي عن حياته هو، كفنان متورط في هذا الحدث.

الآن، بعدما انتهت الثورة وأصبح من المستحيل صنع أفلام عنها، لا نملك من ذكراها سوى أفلام قليلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، أبرزها فيلم "فرش وغطا"، الصرخة الصامتة عن أحداث 25 يناير، واللحن الأخرس لما حدث خلال الـ18 يوماً وما تلاها. لو كان أحمد قد انتظر انتهاء الثورة، حتى ينظّر لها ويصنعها فناً، لما كان في إمكانه صناعة فيلم مثل "فرش وغطا"، ليس فقط بسبب تغيير الشروط الانتاجية، بل بسبب تغيير حساسيته كفنان اتجاه الحدث والقصة.

ليست السينما عند أحمد خطبة نلقيها على الجمهور، ونحن نخدعه بالسرد والحدوتة. بل هي قلق، وتجريب، وأحياناً تخريب، محاولة لفهم الذات وتطويرها. لو لم يصنع "فرش وغطا"، لما كان في إمكانه أن يخرج من الخرَس الثوري، إلى فضاء السرد والميلودراما في "ديكور". ولو لم ينغمس في سياسات الانتاج التجاري في "ديكور"، لما كان في إمكانه إن يتطور ويصل إلى مرحلة مغايرة في فيلم "ليل/خارجي".

لا رؤية كاملة، بل تكتمل الرؤية في العمل والخطأ، والانغماس في الحياة والممارسة الفنية.

على امتداد أكثر من عشر سنوات من الصداقة، والكتابة، والأفلام، والأحزان... تداخلَت أفلام أحمد مع حياتي الشخصية، وتداخلَت حياتي الشخصية مع أفلامه. أحياناً، يمر موقف عليّ، فلا أعرف: هل هذا "ديجا فو"؟ أم أني رأيته في فيلم؟ أم صدى لحكاية نسجناها؟ في 2010، وقفتُ متردداً، مثلما رصدت الكاميرا خطوات علي (قام بدوره عاطف يوسف) في فيلم "هليوبوليس".. هل يشتري الثلاجة أم يهرب؟ في 2013، كنت في جلسة جمعت موسيقيين من عالم "المهرجانات" وعالم الموسيقى المستقلة، أبحث عن شغف جديد في الحياة عبر الموسيقي السرية للمدينة، مثل بطل فيلم "ميكروفون"، بينما قلبي يذبل في أحزانه.


حينما خرجتُ من السجن، علمتُ أنه يجهز لفيلم جديد، أرسل يسألني إذا كان في الإمكان أن يستخدم فقرتين من روايتي "استخدام الحياة". وافقتُ بالطبع، ودُهشت لاختياره لفقرة عن العلاقات العاطفية في القاهرة، لأن هذه الفقرة تحديداً يسكنها شبح من فيلمه "هليوبوليس" حيث أبطال الفيلم عالقون في إشارة مرور، لكن بدلاً من الفوضى والمرح وصراع الطبقات الذي نجده في فيلم "إشارة مرور" لخيري بشارة، نجد أحلام العالقين في شوارع القاهرة تتكسر، تُدهس، يبتلعها الزحام، وتستحوذ عليها المدينة.

طلبني مرة أخرى، ليعرض علي المشاركة في دور في الفيلم، وليحقق أمنيتي أخيراً كنجم شاشة، بعد سنوات من وداعي للتمثيل المسرحي.

ذهبتُ لتصوير الدور، وأثناء التصوير فوجئتُ بكريم قاسم، بطل الفيلم، يصافحني بحرارة، مشيراً إلى إن الشخصية التي يؤديها في الفيلم من المفترض أنه صديقي. لم يخبرني أحمد عن الفيلم وتفاصيله. بعد ذلك بشهور، دعاني لمشاهدة مسودة الفيلم في المونتاج، لأفاجأ بفيلم عن ثلاثة أشخاص في المدينة، تلهو بهم الدراما وخطوط الرغبة والسلطة التي تجذب الشخصيات وتربطها ببعضها البعض. لكن بطل الفيلم، المخرج الشاب، حزين لأن صديقه في السجن بسبب كتابته رواية. ومجدداً، بعد عشر سنوات، حسدتُ أحمد عبد الله على قدرته على تحقيق المعادلة الصعبة، وكل ما أطمح إليه في الفن والكتابة، إن تنتج عملاً:

أولاً: يرتبط بذات الكاتب وتجربته الفردية، فأي عمل لا يحتوي على خصوصية الذات المنتجة لا يعول عليه.

ثانياً: إن ينسج السرد شبح حكاية، ولا يتحول مطاردة درامية.

ثالثاً: ألا ينفصل الخاص عن العام، ولا يطغى كذلك العام على الخاص.

رابعاً: أن تكون جاداً في لعبك. ومرحاً خفيفاً في جديتك.

كل عمل تجربة مختلفة، لأنك لا تعبر النهر مرتين، وكل يوم. كل سنة تمر عليك، مثلما تعيد نحت جسدك وتشكيله وتحميله بالأمراض والنوازل، فهي تغير من رغباتك وأطماعك وشهواتك ونظرتك إلى الحياة ومعنى الممارسة الفنية.

سهل إن يصل الكاتب إلى أسلوب. كذلك، من الممكن أن يصل المخرج إلى "طبخة". تركيبة موزونة منضبطة المعايير، مثلما ينتج صنّاع الأفلام المصرية من الجيل الجديد، الذين درسوا في أميركا، أفلاماً متشابهة.

لكن كل فيلم لأحمد هو طبخة جديدة، مفاجأة غير متوقعة، هروب من التصنيفات والحواجز، بحث عن شغف جديد وحكاية قادرة على انتشاله من أحزانه الدائمة، مَشرط يشق صدره، يدٌ تنتزع قلبه وتلقيه تحت العجلات الدائرة، على الرصيف، مسافة نقطعها بين نقطتين، فننظر خلفنا ونسأل أين ذهب الأمس يا صديقي. لكننا لا نحزن، لأن مذاق سكّر الحب لا يزال في الفم.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024