إلى نزهة وماريان

هدى بركات

الإثنين 2016/10/24
 
حين أدركت البناية بطوابقها الثلاث أن الأمر يعدو كونه مجرّد تسرّب من شقة في الطابق الأخير، وأنّ مايشبه الفيضان وصل إلى شكل شلالات على السلّم، كففتُ عن شطف الماء المتدفّق في بيتي وعن عصر المناشف. كنت يائسة تماما ومنهكة وقد شارفت الساعة على الثانية بعد منتصف الليل ورجلاي في الماء البارد. أيقنت أنّ الأرضية الخشب قد انتقعت وشربت وخزّنت من الماء ما سيجعلها تنطّ وتنفصل عمّا يسندها... وإذذاك سيأتي وقت بوليصات التأمين لتفتح ورشة مهولة في بيتي، تخلّع الأخضر واليابس وتقلب الميمنة على الميسرة...


لم أكن التفتّ إلى ما يجري على باب السلّم حيث ضجيج الجيران يتعالى. لكنّي حين سمعت الضحكات طار عقلي ففتحت الباب منبوشة الشعر حافية القدمين أريد معرفة من يضحك في هكذا ظروف. قلت بغضب ظاهر: من يضحك وعلى ماذا؟ أتراه يوم "عيد الجيران" وأنا ناسية تاريخ العيد الذي لم تقم بنايتنا يوما بالإحتفال به؟ كان الجيران كلّهم هناك بمنظر يشبه منظري، حفاة بمماسح الكاوتشوك والمناشف، وأنا لا أعرف سوى من يسكنون طابقي وبعد أكثر من 15 سنة من انتقالي إلى هنا: نزهة وماريان. عرفت فورا من شكل المرأة التي خافت منّي- وكانت تحمل صينية حلوى - أنّها هي من كان يضحك. سألتني نزهة وهي تأخذني من يدي إلى داخل بيتي إن كان في شقتي ماء. قالت ماريان إنّ الجارة التي كانت تضحك بكت طويلا واعتذرت تكرارا، لأنّها نسيت أن تسكّر الحنفيّات حين قطعوا المياه عن البناية بسبب الأشغال، وخرجت إلى عملها... وحين أعادوا المياه... هذه الحمارة بلا رأس وتضحك. أتمنى ألا أراها وأنا في هذه الحال، قلت. شقتا نزهة وماريان نجتا من الطوفان. أقعدتاني لأستريح وظلتا معي واحدة تدفق ما تجمع من ماء والثانية تعصر المناشف. ولأن بابي بقي مفتوحا دخل الجيران كلّهم يعرضون مساعدتي ويردّدون يا إلهي، عندك مصيبة...هذا يحصل. هذا يحصل مع الجميع. وأنا في ما تبقّى لي من قوّة أصرخ لا هذا لا يحصل مع الجميع. المرأة في الثالث رأسها معطوب...


في اليوم التالي دقّ بابي جيران كثر يريدون الإطمئنان عليّ. شعرت بالخجل. قلت في نفسي وأنا لا أعرف أحدا منهم قبل ال"مصيبة" بأني ربما أكون الوحيدة التي لن تخرج من بيتها لتساعد الآخرين لو حصل لهم ما حصل لي. أنا الفخورة ب"ثقافتي" التي توصي بسابع جار، وكلّ ما هناك من تراث فولكلوري حول قيم الجيرة عندنا، والتي لا نجدها عند"هم"...

***
نقول إنّ الجيران في فرنسا ليسوا كما هم عندنا. منذ وصولي إلى هذه البلاد، وفي احتساب دائم لما هو "هم" وما هو "نحن"، وفي نتيجة هذه المقارنة الإجباريّة استخلصت ما يكفي من الشواهد والعبر لأقول إن الجيران"عندهم" يتكارهون بعنف. وأيّ جار هو بمثابة عدوّ تكبر عداوته كلّما ازداد اقترابه. فهم ينظرون إلى ساعاتهم ليتّصلوا بالشرطة إذا ما تجاوزت موسيقى الجار أو صوت الغسّالة العاشرة والنصف ليلا، أو إذا ما ارتأى أحدهم بأن الجار يبقى على شرفته أكثر مما ينبغي وهو ربما يتلصص.. ويتدخّل معدّو البرامج الإجتماعيّة للتوسّط بين جارين رفعا من الدعاوي ما صار يلامس إمكانيّة القتل. إلى آخره...

وكان استرعاني مؤخّرا مقال مسهب عن دراسة وضعتها بروفيسيرة الفلسفة وعلم الإجتماع إيلين لوييه حول تكاره الجيران. وفيها تقول ما معناه أن الجيرة مفروضة بحكم المكان وهي أتت لتحلّ مكان علاقات القربى، فأي انزعاج يستحيل تدخّلا لا شرعيّة له. ويزيد من تعقيد هذه العلاقة التباس الحاجة إلى من هو قريب في المكان، كأن يلجأ ولد إلى الجار بانتظار عودة الأهل لأنّه أضاع مفتاحه مثلا، وبين استعراض الجار لما هو سريّ أو حميم في دواخل البيوت... وتستشهد البروفيسيرة لوييه بتحليل للمؤرّخ مارك فاشيه الذي يعتبر أن جيران المدن الحديثة ومنذ منتصف القرن الماضي يعيشون الجيرة كفرض هم مجبرون عليه ولا خيار لهم في المسافة التي تراعي حريّة الفرد في تجنّب الإختلاط والتلامس. فالتضامن والتعاون والحاخة إلى الجماعة أصبحت من أعراف الماضي...

وبالعودة إلى دراسة إيلين لوييه نكتشف أيضا ذلك الفارق بين أن تسكن بيتا مستقلا، وبين أن "تندحش" في شقة. وهو الفرق بين سكن الأغنياء وسكن الفقراء. فلماذا يتقبّل الفقراء وضعهم الطبقي ويقبلون بال"جار"؟!

فإن أضفت إلى كل ما سبق أن يكون الجيران من أصول مهاجرة ف...
جيراني في البناية ما زالوا يسألونني عن "التطوّرات". لا بدّ أن يكون جوّ فرنسا المثقل بالتوتّر هو ما دفعهم إلى هذا التعاطف الجديد؟!
عندنا، ولأنّنا نتّجه للأسف إلى نسيان أغنية "ميّل يا جار شرّفنا عالصبحية..." وكل ما كان يشبهها، توجّب أن أعتذر من نزهة وماريان، ومن جيراني كلّهم...
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024