"فضاءات الأمل": أنثروبولوجيا الفن المصري

شادي لويس

السبت 2021/05/01
في العام 2006 أصدرت الباحثة الأميركية، جيسيكا وينغار، كتابها "حسابات إبداعية: سياسيات الفن والثقافة في مصر المعاصرة"، ليشكل إضافة مهمة لدراسة الحقول الإبداعية المصرية. فتناول الفنون التشكيلية في مصر ظل لوقت طويل مقتصراً على الجانب التأريخي، وبالأخص منصباً على جيل الرواد وبشكل أقل جيل الوسط. وفي معظم تلك الدراسات، نالت الجماليات اهتماماً من الدرجة الثانية بوصفها عرضاً لظواهر وخطابات سياسية، أو ردود أفعال تجاهها.

جاء عمل وينغار متمايزاً بأكثر من طريقة. اهتمامها انصب على الفنون المعاصرة، وفي المرحلة الفارقة لعقد التسعينات ومطلع القرن الجديد. وهي الفترة التي شهدت تحولات جوهرية في اقتصاديات الفنون التشكيلية في مصر والمنطقة العربية عموماً، بدخول مؤسسات دول الخليج وصالات المزادات العالمية مع غاليريهات خاصة محلية لمنافسة الدولة في تشكيل الساحة الفنية ومعاييرها. من ناحية أخرى، كان كتاب وينغار هو الدراسة المتكاملة الأولى من نوعها لدراسة الفن في مصر بأدوات أنثروبولوجية. فعملها كان معنياً بدراسة الفن بوصفه حقلاً للممارسة اليومية وللعلاقات الشخصية ولعمل المؤسسات بأشكال تؤطرها وتحكمها عوامل جمالية واقتصادية واجتماعية. وفي ذلك السياق، قدمت وينغار صورة دقيقة لسِيَر الفنانين الذين كتبت عنهم، مصحوبة بتفاصيل عن خلفياتهم وحياتهم اليومية وكثير من النميمة وتفاصيل الصراعات المتعلقة بالجماليات ونطاقات النفوذ وحراسة البوابات ومنح الاعتراف والتقسيم الجيلي والمنافسة على الموارد المادية والمعنوية. أيضاً، كانت السياسات هي محور تركيز الكتاب، لا السياسة بمعناها الواسع، عبر تتبع التغيرات الإدارية وحجم التمويل وطرق إنفاقه داخل مؤسسات وزارة الثقافة والمؤسسات المانحة وتأثير ذلك في الحقل الإبداعي وجمالياته.

ينطلق كتاب "صناعة فضاءات من الأمل: الفنانون الشباب والخيال الجديد في مصر" (صادر بالانكليزية الشهر الماضي) من أساس مشابه. وتشير كاتبته، الباحثة كارولاين سيمور-غورن، في المقدمة، إلى كتاب وينغر، فهي مثلها تعتمد في دراستها على أدوات أنثروبولوجية، كما تركز دراستها على فنانين معاصرين، وفي مرحلة مفصلية أخرى، هي العقد الذي تلا ثورة يناير، مرحلة شهدت تفجراً للنشاطات الإبداعية في الفضاء العام، ثم تراجعت بعد الثلاثين من يونيو. سعت سيمور-غورن أيضاً للتركيز على التقنيات والاستراتيجيات الجمالية بدلاً من السياسة، واعتمدتْ مصطلح "فضاءات الأمل" لتوصيف المساحة التي خلقتها عبر النشاط الإبداعي، وهو مفهوم أنثروبولوجي صُكّ لوصف الأنشطة الاجتماعية لشباب لجاليات الإسلامية في المهجر للتغلب على العزلة والتهميش الاجتماعيين. هكذا يبدو كتاب سيمور-غورن، استكمالاً لعمل وينغار وامتداداً له في حقبة تاريخية لاحقة.

لكن طموح كتاب "فضاءات الأمل" يتجاوز سابقه. فبدلاً من الاكتفاء بالفنون التشكيلية، تخصص الكاتبة فصلاً للموسيقى، يتناول مشروع "كورال"، وفصلاً لفنون الاستوديو عن الأعمال البصرية لهاني راشد وباسم يسري وياسمين المليجي، وكذلك فصلاً للأدب يناقش أعمال منة الله سامي وهاني عبد المريد، وفصلاً أخيراً عن غرافيتي عمار أبو بكر وسلمى سامي. ولا تهدف سيمور-غورن إلى مجرد تنويع الحقول الابداعية والقفز بينها، بل إلى اكتشاف تفاعلاتها البينية، والمشتركات والتقاطعات ومساحات التنافر أيضاً، فكيف للأعمال التشكيلة أن تمارس تأثيراً أو تقدم "حلولاً" للأدب أو العكس؟ أو كيف يمكن للسخرية أن تكون عاملاً مشتركاً بين التشكيلي والموسيقي والأدبي؟

ومع أن مقاربة تلك الأسئلة، غير المطروقة في دراسات الثقافة في مصر بشكل كافٍ، فهي خطوة تستحق الاحتفاء. إلا أن الكتاب لم يقدّم إجابات مُرضِية لها. فالمنهج متعدد الحقول الذي تم توظيفه، انتهى بتشتيت، لم يسمح بالتعمق بما يكفي في أي منها. فلضيق المساحة، عجزت النماذج الإبداعية المقدمة عن أن تكون ممثلة لحقولها والتنوع الجمالي داخلها. فومضات منة الله سامي القصصية ذات الخلفيات الفرعونية، وواقعية هاني عبد المريد السحرية، تقدّم شريحة ضيقة من المشهد الأدبي المصري وتياراته، ولا يمكن الأخذ بها كتمثيل "للكتابة الجديدة". أما السخرية وموضوع الجسد والانسحاب إلى الداخل، التي رصدها الكتاب كتيمات مشتركة بين الحقول الابداعية المختلفة، فعُرضت بشكل مُقنع، لكن من دون أن تكشف عن أي آليات للتبادل أو التأثير المشترك بين حقل إبداعي وآخر.

أكثر ما يلفت الانتباه هو نجاح الكتاب في ما عجز تحديداً عن تحقيقه. فوعود تناول الجماليات وتحريرها من السياسة، انتهت إلى استغراق في السياسي، وإن بشَكل غير متعمّد. فعقد ما بعد الثورة المشحون بالأحداث إلى أقصى حد ألقى بظلاله الثقيلة على العمل الإبداعي بكل تأكيد، من حيث المحتوى والقوالب أيضاً. حتى التحول نحو الذاتي والوجودي والسوريالي، بعد الثلاثين من يونيو، ورغم تفاديه للسياسة عن عمد، خوفاً من التبعات، فإنه يظل سياسياً في دوافعه. أما من حيث الجماليات، فالعناصر الفانتازية، والاندماج بين البشري والآلي والعضوي، والتشوهات ذات الطبيعة الكابوسية والتاريخي والعجائبية، التي يرصدها الكتاب كمشتركات بين الحقول المختلفة، فيمكن تبيّن دلالتها السياسية غير المباشرة من دون مشقة.

يقدّم "فضاءات الأمل" موجزاً لتحولات الحقول الإبداعية في مرحلة شديدة التقلّب، ويطرح أسئلة حول الطرق الذي وُظفت بها الثقافة لصالح السياسة. ويدعونا كذلك إلى استكشاف طرائق مختلفة للنظر إلى الحقول الفنية والأدبية والعلاقات بينها، بأدوات أنثروبولوجية، وبتركيز على الجماليات، لا ينفي السياسة بل يكون أكثر حساسية لتمظهراتها الإبداعية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024