فوتبول مهدي بلحاج قاسم: أوبرا الزمن الراهن

روجيه عوطة

الثلاثاء 2018/07/03
طوال مدة كأس العالم الحالي، ومع بداية كل أسبوع، ستعمد سلسلة "مكتبة الفوتبول" إلى تقديم كتاب يتناول رياضة ولعبة كرة القدم. بعد الحلقة الأولى عن كتاب "الفوتبول، طاعون عاطفي" لجان ماري-بروم ومارك بيريلمان، والحلقة الثانية عن "سقراط منتعلاً الحذاء اللاقط" لماتياس رو، هنا، الثالثة، وهي ليست عن كتاب منجز بل متفرق ومتوزع على نصوص ومقابلات ومحاضرات لمهدي بلحاج قاسم.

لم يخصص الفيلسوف مهدي بلحاج قاسم، كتاباً عن الفوتبول، لكنه، أتى على ذكر اللعبة في مؤلفاته المختلفة، لا سيما تلك التي شكل اللعب محوراً فيها، كما في "مجتمع" و"استطيقيا الخواء" على سبيل المثال لا الحصر. ولهذا السبب تحديداً، كان قد نظم عدداً من الـ"فيلوماغ" حول كرة القدم، تخلله حوار بينه وبين لاعب المنتخب الفرنسي ليليان تورام، الذي، وبعد اعتزاله، توجه إلى الكتابة والنشاط السياسي.

في صلته مع الفوتبول، يستند بلحاج قاسم إلى عبارة ألبير كامو، التي يقول فيها أن الملعب هو المكان الوحيد حيث يشعر فيه بأنه ما زال طفلاً. ذلك، أن كرة القدم قد ارتبطت بطفولته التونسية بطريقة وثيقة، إذ كان يمضي أيامه يلعب بالطابة في الأزقة مع رفاقه أو يشاهد المباريات في التلفزيون الإيطالي الذي لم يكن مملاً كالقناة المحلية. "في حال كانت كرة القدم شغف البروليتاريا في أوروبا، فهي دين طبيعي في العالم الثالث، لقد كانت في الدم أكثر من الموسيقى. جميعنا حلم في لحظة ما أن يكون بيليه أو بلاتيني". على هذا النحو، احتفظ بلحاج قاسم بحبه للفوتبول، وما زال يقضي وقتاً يومياً في التفرج عليها: "أحياناً، أشعر بالذنب أنني أفضلها على العمل، فأتذكر القديس أوغسطينوس الذي اعتذر في اعترافاته عن مواظبته على مشاهدة ألعاب السيرك". من هنا، يسأل إن كانت الفوتبول هي المعادل لألعاب السيرك في الحاضر قبل أن يجيب بالنفي، وهذا، على عكس الكثيرين من زملائه الذين يعقدون المطابقة بين الإثنين.


فيميز بلحاج قاسم بين نموذجين تاريخيين. الأول هو النموذج اليوناني، وتجسد الألعاب الأولمبية حدثه الذي يقترب من كونه عملاً من أعمال الفنون الجميلة، "ففي هذه الحقبة الوثنية، وبحسب هيغل، كانت هذه الألعاب تحتل مرتبة أعلى من الشعر والتراجيديا والموسيقى". والثاني هو النموذج الروماني، وتجسد ألعاب السيرك والمصارعة حدثه الذي لا يهتم المنخرطون فيه بإتقان أدائهم بل بعرض الموت والقسوة. في هذا السياق، ولما يسأل الفيلسوف عن المعادل الحاضر للنموذج الروماني، لا يجده في الفوتبول، بل في مجال آخر، أي الفن المعاصر، لا سيما بميله المستمر إلى إبانة الجسد في مشرحته العضوية والحركية. بالتالي، الفوتبول هو سليل النموذج اليوناني، وليس الروماني، لكن هذا لا يلغي أنه عمل فني كامل أيضاً، "مثلما كانت الأوبرا خلال القرن التاسع عشر".

يرد بلحاج قاسم على الربط الذي يشيعه مثقفو اليسار بين الفوتبول والرأسمالية، قائلاً أن هؤلاء يخافون من كل شيء متعلق بالمال، كما أنهم لا يقدرون على الفصل بين الطرفين. "فالنظام الرأسمالي وكرة القدم ليسا بالضرورة على ارتباط. من الممكن تخيل أن الرأسمالية تتبدل أو تختفي، لكن الفوتبول يبقى. الرياضة بقيت على قيد الحياة في كل الأنظمة وأشكال التنظيم الإقتصادي. لدى الإنسان، وبكل بساطة، مواظبة دائمة على اللعب. ربط عيوب الرأسمالية بالفوتبول، هو إعراض عن الهدف". وفي السياق عينه، يدعو إلى إعادة قراءة الفيلسوف والسوسيولوج الماركسي جورج سيرويل، الذي وجد في الرياضة لقاحاً ضد غرغرينا الكحول والبغاء التي تنتشر بين صفوف البروليتاريين في بداية القرن العشرين.

يتمسك بلحاج قاسم بالفوتبول لأنها، وعلى عكس الرائج في الزمن الراهن، ما زالت تسمح بتعيين الحد بين خشبة عرضها، وجمهورها، بين مؤديها والمتفرج عليها، بين مكانها المقدس، أي الملعب، ومكانها المدنس، أي المدرجات، بين الفوق والتحت. وهذا، في حسبانه، ما يجعلها ساحرة، وما يجعلها رجاء لخلق التنوع الأسلوبي: الإيطاليون تراجيديون، الفرنسيون مفرطو الديموقراطية، الألمان يمارسون كرة القدم بانضباط بروتستانتي، ووحدهم البريطانيون يتعاملون مع الفوتبول كلعبة فقط.

فعلياً، وعند الإطلاع على نظرة بلحاج قاسم إلى كل هذه المنتخبات، وعطفها على نتائج المونديال الحالي، يغدو من المؤكد أن كرة القدم تتغير، وتفقد سحر أساليبها.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024