مهرجان فينيسيا الـ76.. المكان الأخير للديناصورات؟

محمد صبحي

الثلاثاء 2019/08/27
تنطلق الأربعاء الدورة الـ76 من مهرجان فينيسيا (البندقية) السينمائي، ببرنامج حافل بأسماء كبيرة وأفلام منتظرة ومسابقة مرصعة بالنجوم. لكن الدورة الجديدة لن تكون احتفالاً خالصاً، بل شابتها، من قبل انطلاقها، انتقادات عديدة بسبب الاختيارات وعدم وضوح رؤية الإدارة الفنية لأقدم مهرجان سينمائي في العالم.

فلا يزال المهرجان الأقدم، والذي استحدثه الديكتاتور بينيتو موسوليني العام 1932، يدفع بطريقة أو بأخرى إلى استنساخ سحر "كانّ"، لكن حقيقة إقامة فعالياته في الثلث الأخير من العام تكشف خلوه غالباً من المفاجآت، بلا أفق واضح، ويعيش على إلهام اللحظة، فضلاً عن انحصار ألقه تقريباً في الحضور الأميركي المميِّز له خلال السنوات الأخيرة. فليس "فينيسيا" شاباً ومجدداً، كما هو الحال في مهرجاني "برلين" و"لوكارنو"، وليس ساحراً ومجتمعاً لنجوم سينما المؤلف كما هي حالة "كان". حتى فكرة أنه معرض أولي لموسم الأوسكار، تبدو وقد اعتراها علامات طفيفة من التعب هذا العام. العديد من النجوم الأميركيين سيحضرون إلى فينيسيا، لكن ليس بالضرورة أن يكونوا الخيار الأول لجوائز الأوسكار. يشاع منذ فترة أن طبيعة عرض الأفلام في مهرجان تورونتو السينمائي، كمهرجان احتفالي ومعرض فرجة أكثر من كونه مسابقة تنافسية، تحث الاستديوهات الأميركية بشكل متزايد على تحويل وجهة المرشحين المحتملين لجوائز الأوسكار من فينيسيا إلى كندا. كانت المهرجانات المتزامنة موجودة في الأعوام الأخيرة، لكن يبدو أن "تورونتو" يزيد من الضغط الآن.

أيضاً، وجود مخرجتين فقط من بين 21 مخرجاً في المسابقة الرسمية، دفع البعض إلى انتقاد المهرجان بسبب سجلّه التاريخي في عدد المخرجات. في العام الماضي، مع صعود حركات الاحتجاج النسائية ومع تبعات أفرزتها حركات مثل "مي تو" و"تايمز أب" المناهضتين للتحرش الجنسي؛ انتبه مهرجان فينيسيا إلى موقفه الآخذ في التداعي، فوقّع المهرجان اتفاقية تقضي بتكافؤ تمثيل الجنسين في أقسام المهرجان مستقبلاً. رغم ذلك، لا يزال المهرجان السينمائي الأعرق تاريخياً في مرمى نيران الإدانة. ففي حين تتخلّى هوليوود عن تسامحها القديم مع أسماء سينمائية مكرّسة، وودي آلن على سبيل المثال، يغرّد مهرجان فينيسيا وحيداً كأنما لم تدركه "الصحوة" النسوية الأخيرة، فيدعو مخرجين تطاولهم اتهامات بالتحرش والاغتصاب لعرض أفلامهم، ويُبقي على معدله المنخفض في التواجد النسائي ضمن برامجه ومسابقاته.

 

مغتصبون وشجعان
في العام الماضي، صرّح المدير العام للمهرجان، ألبرتو باربيرا، بأنه يفضّل إلغاء الحدث الذي يستمر 11 يوماً، حيث عُرضت ثلاثة من آخر خمسة أفلام فازت بجائزة أوسكار أفضل فيلم، بدلاً من الرضوخ للضغط وتخصيص كوتا محددة لا تمت للسينما بصلة. ذلك التصريح، وغيره، مما جادت به قريحة إيطالية لا تخجل ولا تتجمّل؛ جلبت عليه لعنات واتهامات نسويات غاضبات رأين فيه تمثيلاً لـ"مستوى منخفض من الوعي الذاتي". هذا العام، ثمة مشكلة أكبر، تمثّلت في دعوة المهرجان، للسينمائي "سيئ السمعة" رومان بولانسكي، لعرض فيلمه الأخير "ضابط وجاسوس" في مسابقة هذا العام. ثم قام بزيادة الرهان عن طريق إضافة "جلد أميركي" للمخرج نيت باركر إلى الاختيارات الرسمية.

مُغتصِب وامرأتان في المسابقة الرسمية لفينيسيا.. يمكن لصوت غاضب التعبير بهذه الطريقة عن إدانته لاختيار بولانسكي المتهم المقرّ باغتصاب قاصر العام 1978، فضلاً عن حفنة من الاتهامات الأخرى تبعت حركة "مي تو". بالقدر الغاضب نفسه، استقبل النقاد الإضافة المتأخرة لفيلم المخرج الأميركي نيت باركر "جلد أميركي" إلى أحد الأقسام الجانبية للمهرجان. وظهر باركر للمرة الأولى في الساحة السينمائية العام 2016 بفيلم "مولد أمة" حول تمرد العبيد، قبل أن يتعثّر مساره المهني باتهامه باغتصاب زميل له (انتحر في وقت لاحق) أثناء دراسته الجامعية. ورغم تبرئة باركر، فقد قال في مقابلة صحافية: "عندما أعود إلى الوراء، في ذلك الوقت عندما كنت مراهقاً، أستطيع أن أقول من دون تردد أنه كان ينبغي عليّ استخدام حكمة أكبر". في المقابل، تعهّد المخرج الأميركي، سبايك لي، بالسفر إلى فينيسيا لدعم باركر "الشجاع".

غضبت هوليوود على بولانسكي وباركر، فطُرد الأول العام الماضي من أكاديمية الفنون والعلوم السينمائية، بينما لم يستطع باركر تأمين تمويل أفلامه عبر أي منتج هوليوودي، واعتمد على تمويل المنتج التونسي طارق بن عمار، المستثمر السابق وعضو مجلس إدارة شركة وينشتاين. لكن فينيسيا ما زال فاتحاً ذراعيه لأمثال هؤلاء المنبوذين والمغضوب عليهم. حاول باربيرا الدفاع عن اختياراته بالقول: "يتناول العديد من الأفلام هذا العام موضوع الحالة الأنثوية في العالم، التي، حتى عندما يوجّهها الرجال، تكشف عن حساسية جديدة، وهذا دليل على أن فضائح السنوات الأخيرة تركت بصمتها في ثقافتنا". لكن يبقى الأمر بمثابة رسالة عالية وواضحة يلقيها مهرجان فينيسيا في وجه المنتقدين، كمن يفرك الملح في جرحٍ مفتوح ويعلن نفسه المكان الأخير للديناصورات.

رغم ذلك يشار إلى أن رئيسة لجنة التحكيم هذا العام، هي المخرجة الأرجنتينية، لوكريشيا مارتيل، التي تعد سابع سيدة تتولى هذا المنصب.

نجوم وأوسكار
خلال السنوات الأخيرة، أصبح مهرجان فينيسيا منصة انطلاق لسباق الأوسكار. في نسخته الجديدة، هناك اثنان من أفلام هوليوود في المسابقة الرسمية، من المتوقع حضورهما لاحقاً في منصات التتويج مطلع العام المقبل. فإذا استضاف الحدث التاريخي في الإصدارات السابقة، العروض الأولى لأفلام "بيردمان" أو "لالا لاند" أو "مولد نجمة" أو "روما"، فقد حضرت هوليوود هذا العام بـ"أد أسترا"، وهو فيلم خيال علمي عن رائد فضاء يسافر إلى المجموعة الشمسية بحثاً عن والده، من إخراج جيمس غراي وبطولة براد بيت وتومي لي جونز. أيضاً، هناك "جوكر" من إخراج تود فيليبس وبطولة يواكين فينيكس، الذي يتتبع أصول عدو "باتمان" الشهير. ومن المنتظر حضور روبرت دينيرو للعرض الافتتاحي للفيلم.

في المجموع، هناك 21 عنواناً للمنافسة في المسابقة الرسمية على جائزة "الأسد الذهبي"، في طبعة تتوِّج المخرج الإسباني بيدرو ألمودوفار، والممثلة الإنكليزية جولي آندروز، بجائزة "الأسد الذهبي" الفخري. عناوين المسابقة تتوزّع كالتالي: 4 أفلام أميركية، و3 أفلام إيطالية، و3 أفلام فرنسية، وفيلمين من الصين، وفيلم واحد من كل من: السعودية وكندا والتشيك وكولومبيا والسويد وأستراليا والبرتغال واليابان وتشيلي.

على غير العادة، سيكون الافتتاح من نصيب الياباني هيروكازو كوري-إيدا، الحائز على سعفة "كان" الذهبية 2018، وفيلمه الأول خارج بلاده بعنوان "الحقيقة". لا يتخلّى المعلّم الياباني عن موضوعه الأثير، العائلة، فيتابع جديده حكاية نجمة سينمائية فرنسية يحث قرارها في نشر مذكراتها على لمّ شمل أم وابنتها، ويقوم ببطولته جوليت بينوش وكاترين دينوف والممثل الأميركي إيثان هوك.


أحد أكثر الأفلام المرتقبة هو "ضابط وجاسوس"، من تأليف وإخراج رومان بولانسكي، وأسباب ذلك، من بين أشياء أخرى، تعود إلى الأصداء الشخصية التي يمكن استخلاصها من رؤية المخرج لقضية ألفريد دريفوس، وهو قبطان فرنسي من أصل يهودي ألماني أُدين خطأً بتهمة الخيانة العظمى عام 1894 وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة، قبل أن يرد اعتباره بعد سنوات بفضل رد فعل المثقفين، مثل إميل زولا، في مقاله الشهير "إني أتهم". من المؤكد أن بولانسكي، المطارد في الولايات المتحدة على خلفية إدانته باغتصاب قاصر العام 1977، لن يخطو على السجادة الحمراء، بسبب اتفاقات تسليم المجرمين مع إيطاليا. رغم ذلك، من المتوقع مشاركته في المؤتمر الصحافي للفيلم عبر الهاتف، مع حضور ممثلي فيلمه: زوجته إيمانويل سينير، جان دوجاردان، لويس غاريل.

وإضافة إلى فيلم بولانسكي، هناك فيلمان من فرنسا. إذ يعود روبرت غيديغيان، كعادته، إلى مرسيليا مع "غلوريا موندي". كما يحضر أوليفييه أساياس بفيلمه السياسي "شبكة الدبابير"، بقصة خمسة سياسيين كوبيين سجنتهم الولايات المتحدة منذ أواخر التسعينيات بتهمة التجسس والقتل، والبطولة لكل من بنيلوبي كروز وإدغار راميرز وغايل غارثيا برنال وفاغنر كورا.

السينما الإيطالية تسجّل حضورها بثلاثة أفلام، أبرزها "عمدة ليوني سانيتا" لماريو مارتوني، وهو فيلم جريمة ودراما، يستند إلى مسرحية تحمل الاسم نفسه للكاتب الإيطالي إدواردو دي فيليبو. ولأميركا اللاتينية فيلمان في القسم الرسمي. التشيلي بابلو لارين، يدير غايل غارثيال بيرنال وماريانا دي جيرولامو، في فيلمه "إيما"، عن قصة زوجين يتعاملان مع تبنٍّ يأخذ مساراً خاطئاً. والكولومبي تشيرو غييرا، يسجل ظهوره الأول في السينما الأميركية بفيلم "في انتظار البرابرة"، وهو مقتبس عن رواية بالاسم نفسه للجنوب أفريقي جي إم كوتزي، مع جوني ديب وروبرت باتينسون في دوري البطولة.

على عكس مهرجان "كان"، فإن "فينيسيا" لا يعادي منصّات البث الرقمي، وهذا يضمن جرعة جيدة من النجوم، فيعرض في مسابقته فيلمين من إنتاج "نتفليكس"، وفيلماً ثالثاً خارج المسابقة. ميريل ستريب وغاري أولدمان وشارون ستون وأنطونيو بانديراس، يحضرون في فيلم ستيفن سودربرغ عن فضيحة "أوراق بنما" بعنوان "المغسلة". كذلك يحضر كل من سكارليت جوهانسون وآدم درايفر في فيلم "قصة زواج"، وهو دراما شخصية للغاية حول طلاق المخرج نواه باومباخ.

في المسابقة أفلام أخرى لكبار المخرجين، حيث يعود السويدي المخضرم روي أندرسون بفيلمه الجديد "عن الأبدية"، بعد 5 سنوات من فوزه بجائزة الأسد الذهبي، ليتأمل وضع الإنسان اليوم. كما يشارك الصيني لوي يي بفيلمه "خيال السبت".

عرب فينيسيا
الحضور العربي في المسابقة الرسمية يتلخّص في الفيلم السعودي، من الإنتاج المشترك مع ألمانيا وكندا، "المرشحة المثالية" للمخرجة هيفاء المنصور، المقيمة في الولايات المتحدة. حظي الفيلم بدعم وزارة الثقافة السعودية، وصُوّر بالكامل داخل السعودية، وهو من بطولة ميلا الزهراني ونورة العوض، وشارك في كتابته براد نيمن مع هيفاء المنصور، ويتابع قصة طبيبة سعودية تقرر خوض الانتخابات البلدية لأسبابها الخاصة في المملكة المحافظة. وتعدّ هذه المرة الأولى التي يشارك فيها فيلم سعودي في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا، أو أي مهرجان سينمائي كبير على العموم.

سبعة أفلام عربية أخرى تشارك في مسابقات وبرامج مختلفة في الدورة الجديدة للمهرجان. في قسم "آفاق" يعرض فيلمان من تونس، هما "الفزّاعات" لنوري بوزيد، حيث يستمر المخرج العتيد في مقاربة مواضيعه الإشكالية وهذه المرة يتابع قصة فتاتين تونسيتين تعودان من سوريا بعد اغتصابهما هناك. أما الفيلم الثاني فهو "بيك نعيش" للمخرج مهدي برصاوي، ويتابع قصة عائلة تونسية ثرية عقب تعرض سيارتها لكمين مسلح، إذ تعود ذكريات الماضي لتطفو على السطح من جديد.

كما يعرض في قسم "أسبوع النقّاد" فيلم "حراشف" للسعودية شهد أمين، ويسرد قصة حياة فتاة شابة تعيش واقعاً مريراً، إذ تواجه تقاليد قريتها التي تقضي التضحية بفتاة من الجزيرة لمخلوقات غامضة تعيش قرب البحر. أما فيلم "جدار الصوت" للبناني أحمد غصين، فيدور حول خمسة أشخاص يحاولون الهرب من القصف في قرية صغيرة جنوبي لبنان، خلال الأيام الأخيرة من حرب يوليو/تموز2006.

ويشهد قسم "أيام فينيسيا" العرض الأول لفيلم "ستموت في العشرين" للسوداني أمجد أبوالعلاء، وهو مستوحى من قصة "النوم عند قدمي الجبل" للكاتب الروائي حمور زيادة. كما يعرض فيلم "بلوز عربي" للمخرجة التونسية المقيمة في فرنسا مانيل لعبيدي، وتدور أحداثه قبيل الثورة التونسية، وتقوم بدور البطولة فيه الممثلة الإيرانية غولشفيته فرحاني. كما يشهد قسم "جسر الإنتاج" العرض الأول لفيلم "العلم" للفلسطيني فراس خوري.

يُشار إلى مشاركة الممثلة التونسية هند صبري في لجنة تحكيم جائزة "أسد المستقبل" التي تمنح لأفضل موهبة ناشئة، كما يشارك المخرج الجزائري الفرنسي رشيد بوشارب في لجنة تحكيم قسم "آفاق".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024