الشيطان أخو سعادتنا

هدى بركات

الإثنين 2016/11/21
 
حين وصل فلاديمير دراغان إلى كلونوالا بدا وكأنه نزل من السماء. كان للرجل ملامح تحمل كلّ تباشير المخلّص، المبشّر بعهد جديد يعود فيه البشر إلى عواطفهم وإلى جوهر الطبيعة الخيّرة الكامنة فيهم.

ذلك الصباح كان الرجل المجهول يلفّ هامته بمعطف أسود طويل، لحيته البيضاء الكثّة تتطاير في الريح فيما شعره الثلجي معقوص إلى الخلف تاركا جبهته العريضة تنير عينيه كقدّيسي الرسومات الإيطالية. ولو لم تكلّمه صاحبة المشرب، حيث يتخذ الطاولة نفسها منذ وصوله، لبقي صامتا منتظرا ساعته. لم تتأخّر حشرية القرويين. وإن كان ينبغي لهم حفظ ألفاظ كان الغريب يردّدها لاستقروا على "الطاقة الإيجابية التي نسيتم".

ففي قرية كلونوالا الإيرلندية القصيّة، حيث يعيش الناس في شظف الأيّام المتشابهة وفي ضجر مميت، محاصرين بالتابوهات والوساوس، وبتقاليد بالية تستمدّ سطوتها من تعاليم كنسيّة قديمة ومتزمّتة، يحلّ فلاديمير دراغان. ومن المشرب – البوب – يبدأ التبشير كرسول محبة ووحدة، وكفيلسوف روحاني. وفي شهر واحد يفتح عيادة لـ"العلاجات الشموليّة، بحسب الطرق الشرقيّة والأساليب الغربيّة". وبتشجيع من النساء يروح يوزّع بطاقاته الشخصيّة حيث إلى جانب اسمه: "معالج، إختصاصي بالصعوبات الجنسيّة".

حتّى آخر المشكّكين انتهى به الأمر إلى الـ"إيمان". ومن زار العيادة شهد وبشّر بعلاجاته، حيث الألوان والأقمشة تشبه المعابد البوذيّة، الأضواء الخافتة والموسيقى وروائح البخور والطنافس المريحة... كلّ ما يحيي تلك الطاقة السعيدة. هذا إلى جانب كاريزما نادرة وأخلاق رفيعة وإخلاص للرسالة. فكيف يمكن التشكيك برجل يستشهد في كلامه بـ أوفيد وبشعراء الإغريق. برجل يقدّم ذاته لناس القرية، فيدرّب الفتيان في وقت فراغه على الألعاب الرياضيّة، ويأخذهم أيام الآحاد إلى الغابة، حيث يعلّمهم القيم العلاجيّة للأشجار وفضائل العودة إلى الطبيعة... فتحت يدي فلاديمير كانت حياة النساء، وبالتالي حياة أزواجهن، تنقلب، فتسترجع الأجسادُ يفاعة والأرواحُ اندفاعا لحياة سعيدة وقد أصبح لها أهداف سامية... أصبح واحدا منهم ونسوا ما كان أخبرهم عن نفسه، من أنّه ولد في الإسكندرية، وساقته رياح السماء والأقدار من مونتينيغرو إلى قريتهم بعد تجوال طويل في بلدان البلطيق تحدوه "استعادة الإنسان الحديث لروحه وللقيم الحقيقيّة"...

لا تروي إدنا أوبراين الوقائع إلا على لسان نساء القرية. ليس هناك من راوٍ عليم. لا تلميح ولو من بعيد إلى ما قد يشي بخداع أو كذب، ولا مسافة بين الروائيّة وشخصياتها. لذلك يبدو السرد أكثر كثافة وإقناعا بسعادة التحوّلات الجارية في حيوات الناس. كل ما حصل حقيقة. كلّ الآمال التي دفقت في القلوب حقيقة.

حتّى... حتّى تكتشف الشرطة – بعد تحقيقات دوليّة - أن دراغان ليس سوى "وحش البوسنة" مجرم الحرب الشهير الفار من وجه العدالة منتحلا إسما مزيفا، وستوجّه له محكمة لاهاي التهم التالية: مذابح جماعيّة وتطهير عرقي، قتل آلاف المدنيين ودفنهم في مقابر جماعية، تعذيب حتى الموت في المعسكرات إلخ...

تقترب إدنا أوبراين من إمرأة واحدة – فيديلما – لتتابع الحكاية. فيديلما ذات الحياة الفقيرة والموقوفة والتي وجدت السعادة مع فلاديمير دراغان وحملت منه قبيل ظهور الحقيقة. وهي التي لم ترزق ولدا ستضطر للإجهاض خوفا من الفضيحة، في "عملية" تشبه سطورُها فظاعة المجازر وتذكّر بها. وستهرب فيديلما إلى لندن لتعيش حياة المهجّرين والمشرّدين ضحايا الحروب...

لا شكّ أن شخصية فلاديمير دراغان مستوحاة من وقائع حياة رادوفان كارادزيتش. وأنّ عنوان الرواية "كراسي صغيرة حمراء" يردّ إلى العام 2012، حيث وضع في ساحة ساراييفو 11541 كرسي بعدد ضحايا حصار هذه المدينة... لكن ما يميّز رواية أوبراين هو الوجه الآخر لمن يبث فينا المبادىء السامية التي تستنهض الطاقات البشريّة لتنتهي في الحقيقة بمذابح جماعية وحروب أهليّة.

لا تقول الكاتبة إن حامل هذه السعادة هو شيطان السياسيين وزعماء الميليشيات، وإن الفردوس هو في تلك الناحية من جهنّم.

لا حاجة لاستطرادات في واقعنا اللبناني.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024