شاكر الأنباري... "المريخ جنة" حكاية كتاب ري برادبري

المدن - ثقافة

الثلاثاء 2020/06/30
حدث في نهاية السبعينيات، أو بداية الثمانينيات ربما، أن أصدر الكاتب العراقي المتفرد محمد خضير مجموعته القصصية تحت عنوان في درجة خمس وأربعين مئوي. محمد خضير، خلال عقد السبعينيات، يعتبر من الكتاب العراقيين الموهوبين في كتابة القصة، له أسلوبه الخاص، ورؤيته الفنية التي تتلخص بالاهتمام الفائض باللغة، والرمز، والإيحاء، والتأثر الواضح بالجيل الجديد من كتاب الرواية الفرنسية التي اهتمت كثيراً بالأشياء ووجودها في السرد، مثل ألن روب غرييه وناتالي ساروت والانكليزية فيرجينيا وولف، وغيرهم من الكتّاب الجدد في العالم الذين كنا نجهلهم في ذلك الوقت. وأعتقد أنه عرف بورخيس وإرنستو ساباتو، قبلنا بكثير وتأثر بهما أيضاً.

كتب محمد خضير مقدمة جميلة لمجموعته في درجة خمس وأربعين مئوي، وصدرت عن وزارة الثقافة والإعلام العراقية. وكتابة مقدمة لمجموعة قصص أمر غير مألوف. في تلك المقدمة التي أعجبنا فيها كثيراً ذلك الوقت، كتب محمد خضير عن فرن عملاق يتجول بين المحلات السكنية وتلقى فيه الكتب لتحرق. هي فكرة الكاتب الأميركي، ري براد بري. والكتب تحترق، كما ذكر خضير، في درجة معينة من الحرارة، وتلك الفكرة تجبر الخيال، المحدود حينها، كوني ما زلت أقيم في قريتي الحامضية وأرتدي الزي الكاكي باعتباري جندياً في قادسية صدام، رغم أنني تخرجت من كلية الهندسة المدنية، جامعة السليمانية، ليسافر نحو مدن يحكمها الموت، والخوف. والديكتاتورية تحارب الكتب وتحرقها، مثل نازية هتلر، وبعث صدام حسين، ومحاكمات مكارثي في أميركا. لذلك أعجبت، وجيلي، بتلك الفكرة، أي فكرة حرق الكتب، بمعنى محاربتها طبقاً لقول وزير الإعلام النازي غوبلز إنه ما أن يسمع بكلمة ثقافة حتى ينتضي مسدسه. يخاف من كلمة ثقافة. يخاف من المعرفة. يخاف من التنوير. ويفضل الجهل. المعرفة عدو ينبغي محاربته. قتله.

وكان محمد خضيّر قد توج ملكاً على القصة القصيرة العراقية بعد مجموعته المملكة السوداء، وكان كل ما يكتبه يرتفع إلى مستوى المقدس الذي لا يعدم من الأهمية الفائقة. موسى كريدي، خضير عبد الأمير، جليل القيسي، محمود جنداري، كانوا أيقونات القصة في ذلك الحين. أما محمد خضير فملكها المتوج.

وفي منتصف التسعينات من القرن العشرين، كنت أتجول في مكتبة من مكتبات كوبنهاغن المشهورة، في شارع المشاة، فوقعت عيناي على مؤلفات ري برادبري، الصادرة عن دار نشر انكليزية. ما دام الكاتب البصري الشهير محمد خضير ذكره قبل عشرين سنة في مقدمة كتابه، في درجة 45 مئوي، فلا بد أنه كاتب مهم. البصري ابن العشار وخمسة ميل والزبير وكورنيش البصرة والكزيزة، لا يخطئ. هذا الذي كتب عن فندق العميان أجمل قصصه. والذي كرس كتابه بصرياثا لمدينته الموغلة في التاريخ والبشر. تخيلُ فرن عملاق لحرق الكتب صورة سوريالية هائلة، ووزارة الثقافة والإعلام العراقية آنئذ لا تطبل سوى لأدبها، وفنها، وفكرها الموسوم بالشوفينية، والكذب، والمبالغة، وتغييب حقيقة الواقع العراقي، فأي مفارقة هذه؟

إذن ثمة شيء فريد في قصص ذلك الكاتب، ري برادبري.
اقتنيت مجموعة ري برادبري بالانكليزية، وكنت أقيم في منطقة فالبي وسط كوبنهاغن متزوجاً، مستقرا، وأمتلك وقتاً فائضاً للقراءة بالانكليزية، وكنت فوقها عاطلاً عن العمل. بمساعدة قاموس المورد، عربي انكليزي، استطعت قراءة المؤلف كله، وأدهشني فعلاً ذلك الكاتب المتخصص بالخيال العلمي بعوالمه المبتكرة، والجديدة على الثقافة العربية. قررت أن أترجم مجموعة قصص له. وهكذا فعلت.

والمعروف أن ري برادبري ولد في مدينة دوكيكان من مقاطعة الينويز الأميركية العام 1920، وابتدأ كتابة القصص القصيرة منذ العام 1932، حيث نشر أكثر من خمسمئة قصة قصيرة، غير الروايات والمسرحيات والقصائد. وظهرت أولى مجاميعه القصصية "الحكايات السحرية" وكان عمره عشرين سنة. وري برادبري كاتب غزير الإنتاج، وعندما كان مكرساً حياته كلية للكتابة، خاصة في العقد الرابع من عمره، دأب على كتابة أكثر من ألف كلمة يومياً، أي ما لا يقل عن قصة قصيرة واحدة في الأسبوع، وطوال عشر سنوات متواصلة.

زار برادبري المكسيك، وكتب عدداً من القصص عن مومياءاتها وطقوس الحياة فيها، وعاش ستة أشهر في دبلن عاصمة آيرلندا، فاستوحى من أساطيرها المحلية كثيراً من القصص، أشهرها قصته "النائحة"، المترجمة ضمن المجموعة التي سميتها "عربة توينبي".

وفضلاً عن القصة القصيرة والرواية، كتب برادبري مجموعة من سيناريوهات الأفلام، أشهرها سيناريو "موبي دك" عن رواية الكاتب الأميركي ميلفيل، وأخرج الفيلم المخرج الأميركي جون هيدسون، وكتب سيناريو فيلم "جاء من الفضاء الخارجي". تعتبر روايتا برادبري "درجة 451 فهرنهايت" و"نبيذ الهندباء البري"، أكثر أعماله شهرةً، إذ حولت الأولى إلى فيلم سينمائي العام 1966، ثم إلى باليه العام 1988، أما الثانية فأطلق اسمها على فوهات أحد البراكين القمرية عندما حط فريق أبولو على القمر، تكريماً للرواية. وفي الثمانينات، طلبت منه المساعدة في تصميم مدينة القرن الحادي والعشرين، التي ستبنى قرب طوكيو.

يمتلك ري برادبري خيالاً هائلاً، وذاكرة فذة، يستعيد عبرهما شريط حياته منذ الطفولة، ثم يستل من ذلك الشريط أفكار قصصه ورواياته غير المألوفة، فهي تستقرئ الجوانب الخفية من العابر واليومي، وتنفذ إلى أغوار الذهن بما تحتشد به من أساطير ومخاوف وأوهام، تتحكم في حياة البشر العادية في غفلة عنهم ومن دون تفسير أحياناً. كما يرتفع برادبري بخياله إلى السماء، فينحت قصصاً تدور في الأغوار البعيدة للكون، مع تفهم لمصطلحات الفضاء والآلات العلمية ودراسات المجرات التي وصل إليها تطور العلوم الحديثة. مع نبرة إنسانية عالية، عادة ترافق قصص الخيال العلمي لديه، فهو يدس رسالته الأخلاقية في تضاعيف القصص حتى وإن جاءت غير مباشرة.

يقول برادبري في مقدمته للمجلد الأول من قصصه القصيرة "سلكت في حياتي ثلاثة طرق، كمستكشف مدينة، مسافر فضاء، وهائم مع أقارب الكونت دراكولا من الأميركيين"، وهي محاور واضحة للعيان أمام قارئ برادبري، فهو كمكتشف للمدينة الحديثة ذات الأوجه غير المتناهية، ينقلنا عبر قصصه إلى عالم البشر فيها حيث تلعب المصادفات دوراً هائلاً في رسم مصائرهم، كما تشكل الأوهام والخيالات المترائية أثناء الوحدة ومواجهة العالم المادي الذي يبدو صلداً أحياناً، نسيجاً لا يمكن نكرانه في تكوين الشخصية المعاصرة.

أغلب الأحداث التي تدور في قصصه حول إنسان المدينة، أحداث عادية تجري كل يوم، لكن في لحظة من اللحظات، وبشكل مفاجئ تتشقق عادية ذلك الواقع لتشف عن الغريب والسري، اللذين لم يكونا مختبئين تحت قشرة الواقع ذاك فقط، إنما في الأذهان أيضاً. وهو حين يوصل الشخصيات تلك إلى لحظة تفتت الواقعي، وانهيار المألوف، فإنه يصور، بالمقابل، حالة الرعب المندفعة من الأعماق، وقد كونتها على مر التاريخ البشري، أساطير وأوهام وخيالات ومآس لا تحصى. عندئذ يتحول مسرح الحياة الدافئ، المطمئن، إلى ساحة متوحشة ترقص فيها الأشباح، والحيوانات الأسطورية، والهياكل العظمية، وديناصورات ما قبل التاريخ، إضافة إلى السحر المعتق في الروح البشرية طوال قرون. وأبلغ تعبير عن هذا المنحى قصته التابوت، حين يتحول إلى آلة مميتة لم يحسب لها بطل القصة حساباً، وفخ نصبه له أخوه العجوز الذي توفي، كي ينتقم منه.

أما غموض الفضاء وأسراره المستعصية على العقل البشري، رغم بلوغه درجة من النضج والتطور لا يستهان بهما، فقد هيأ لبرادبري مادة غنية يجرب عليها خياله الفذ. كتب عن الشمس وحرارتها، عن المريخ المتوهج بالحمرة في ليالي الأرض، عن ساتورن ذي الدوائر المتحجرة الشبيهة بعيون كونية ترقب المجهول، عن المجرات البعيدة التي استخدم في السفر إليها، ورواية ما يدور فيها من أحداث، خياله البشري وحده مستنداً على معرفة واسعة بالرحلات الفضائية، والدراسات العلمية، والفرضيات التي يتفتق عنها ذهن الباحثين الفضائيين.
وقد صنف ري برادبري على هذا الأساس، ضمن كتّاب الخيال العلمي، وكرس روايته "الأحداث المريخية" لعالم ذلك الكوكب الأحمر الغامض.

ما بعد منتصف الليل، محركات المتعة، ص للصاروخ، ف للفضاء، التفاح الذهبي للشمس، تعتبر من أهم أعمال هذا الكاتب، إضافة طبعاً، لـ"نبيذ الهندباء البري"، و"درجة 451 فهرنهايت". ولم يشع مثل هذا النمط من الأدب في الثقافة العربية، وقلما ترجمت أعمال كاملة لروائيين يكتبون الخيال العلمي، أما الكتّاب العرب فنادراً جداً ما خاضوا غمار هذا الحقل. ونظن أن غياب أدب الخيال العلمي مرده إلى ضيق الحيز العلمي في مجتمعاتنا العربية، وتكريس النخبة العلمية مجال عملها في المؤسسات العلمية من دون أن تقترب من الثقافة بمعناها الإنساني والأدبي. إضافة إلى أن شيوع هذا النوع من الأدب يفترض قارئاً له إلمام بأبجديات هيكلية الفضاء، والكون غير المدرك، والفيزياء، والصناعات الدقيقة، الأمر الذي لم يشع لدينا حتى هذه اللحظة.

أرسلت المجموعة إلى الدار التي أسسها ويديرها المناضل والكاتب البحراني الراحل عبد الرحمن النعيمي وسماها دار الكنوز الأدبية. قبل ذلك نشرت في الدار ذاتها مجموعتي القصصية "أنا والمجنون"، ورواية "الكلمات الساحرات"، التي صمم غلافها الفنان العراقي طالب الداوود. انتظرت أكثر من سنة كي تصدر الترجمة لكنها لم تصدر، وكنا في العام 1995، العام الذي قررت فيه طباعة روايتي "ألواح" لدى دار المدى. وضعت مخطوطة القصص لدى دار المدى فصدرت بعد منتصف العام 1996، ورغم أنني رأيت النعيمي بعدها لكنه لم يشر إلى موضوع القصص تلك. وعرفت حينها أن دار الكنوز صححت، وصممت الغلاف، وعلى وشك طبع المجموعة.

بعد سبع سنوات من صدور "عربة توينبي" لري برادبري عن دار المدى، وتحديداً في منتصف 2003، تغيرت حياتي بشكل مذهل بسبب ذلك الكتاب. لقد عشت عشر سنوات تقريبا ًفي دمشق، لكن 2003 كانت القاصمة، حيث تواترت الأحداث بسرعة.

شنت الحرب على العراق، أسقط صدام حسين وبعثه، وقررت العودة إلى الوطن بعد عقدين من الغياب، وكان هذا طموح معظم الكتّاب العراقيين المنفيين. لكن وضعي الاقتصادي وصل إلى الصفر. وفي تلك الأثناء وظف صديقي الكاتب والمترجم عن الفرنسية، قاسم المقداد، مديراً لدائرة النشر في وزارة الثقافة السورية. وفي إحدى الأماسي الخمرية في مطعم المحاربين القدماء، المطل على جبال قاسيون، سألني قاسم إن كنت امتلك مخطوطاً للنشر، فمكافأة المؤلفين أصبحت جيدة ومغرية.

وهنا ورد إلى ذهني ري برادبري مرة أخرى. لم أترجم له سوى عدد محدود من كتابه القصصي الضخم المنشور بالانكليزية. وقد ظل ملازماً لي أثناء عيشي في دمشق، وأعود إليه بين فترة وأخرى كي لا أنسى اللغة الانكليزية.

أخبرت قاسم المقداد إن كان بالإمكان إضافة مجموعة أخرى من القصص على الكتاب الذي طبع في دار المدى وتقديمه كمخطوط إلى الوزارة، فوافق الرجل. وهكذا جلست شهراً كاملاً على الترجمة، من دون أن أغادر بيتي الذي كان يقع في محلة جرمانا، ليس بعيداً من باب توما. ومع قرع طبول الحرب استعداداً لإسقاط النظام، أنجزت مشروعي وسميت المجموعة الجديدة "المريخ جنة"، على اسم إحدى القصص، واستلمت ما يقرب الألف وخمسمئة دولار من الوزارة.

استطعت عبر ذلك المبلغ الضئيل العودة إلى العراق، عن طريق الأردن، بعد غياب أكثر من عقدين.

قبل نهاية العام 2003 وجدت نفسي في بغداد. أما مجموعة "المريخ جنة" لري برادبري، فلم تصدر عن وزارة الثقافة السورية إلا في العام 2006.

حملني ري برادبري على جناحيه، ودخلت العاصمة بعينين مذهولتين وأحاسيس متوترة، فالمكان، بعد عشرين سنة من الاغتراب، لا يترك خلفه سوى الذكريات.

(*) مدونة نشرها الروائي العراقي شاكر الأنباري في صفحته الفايسبوكية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024