"حارس القدس": ملحمة حزينة لبطولة انتهت إلى جنون

شادي لويس

الجمعة 2020/05/08
التاريخ أدنى من الشعر، بحسب أرسطو على الأقل. الأول وصف لوقائع بعينها، أما الثاني بمعناه الواسع، أي الملحمة أو الفن عموماً، فيتعامل مع الكليات، لا مع ما حدث، بل ما يمكن أن يحدث أو ما كان يجب أن يحدث. هكذا، التاريخ معني بالواقع وتدوينه، بالجزئي منه، والفن موكل له أن يكون جسراً بين الواقع والمثالي، بين الجزئي والكلي. سيرة بطل الملحمة إذاً، ليست سيرة الفرد، بل قصة البشر جميعاً، تاريخ الهشاشة والبطولة، والتناقضات التي تحكم شرطنا الإنساني.

حياة المطران هيلاريون كابوتشي، التي يتناولها المسلسل السوري "حارس القدس"، ليست فقط أول سيرة لرجل دين مسيحي تصبح موضوعاً لمسلسل تلفزيوني عربي (وفي الموسم الرمضاني)، بل هي أيضاً مادة تاريخية شديدة الخصوبة للدراما، ومفارقاتها العنيفة. رجل الدين الحلبي، الذي يصبح بطريركاً للروم الكاثوليك في القدس قبل النكسة بعامين، ومن ثم يصبح رمزاً لمقاومة الاحتلال، وهو لا يختار الكفاح السلمي، بل المسلّح. ويلقى القبض عليه في العام 1974 بتهمة تهريب متفجرات في سيارته لصالح منظمة التحرير. لم يكن كابوتشي وحده من آباء الكنيسة الكاثوليكية ممن اختاروا السلاح. ففي الوقت نفسه تقريباً، وفي جهة بعيدة من العالم، كان كهنة "لاهوت التحرير" يحاربون في غابات أميركا اللاتينية، وتغتالهم الأنظمة العسكرية المدعومة من الولايات المتحدة في أديرتهم وعلى منابر الكنائس وفي القرى الصغيرة. كان كابوتشي رمزاً للاهوتنا التحريري، ولم يكن وحده بالطبع في المنطقة، لاهوت عربي، يساري وعالم ثالثي مناهض للاستعمار، ابن زمنه وأرضه أيضاً.

لكن الرجل الذي نال حكماً بالسجن مدته 12 عاماً، ونفذ منها أربعة أعوام في السجون الإسرائيلية، لم يعد فقط رمزاً للشجاعة الملحمية، بل أيضاً للعمى الذي يلحق بأبطال المأساة، هؤلاء الذين دائماً ما يسيرون نحو مصيرهم المحتوم بإصرار جنوني وعناد مذهل، الخطأ الصغير والواضح الذي يرتكبونه أولاً ويقودهم إلى طريق منحدر إلى الهاوية، الهلاك والعار. فكابوتشي الذي قضى بقية حياته في المنفى في روما، منذ الإفراج عنه في 1978 حتى وفاته في 2017، لم يضيّع أي فرصة في سنواته الأخيرة، لمهاجمة ثورات الربيع العربية، ومساندة نظام الأسد وكل فظاعاته وقسوته الدموية، بل وتمثيله أيضاً أمام العالم.

لكن كابوتشي ليس نبيلاً تراجيدياً في مسرحية لشكسبير، يصيبه جنون قدري ويفقد عقله في النهاية، بل هو تجسيد لتاريخ القومية العربية في المنطقة ومآلاتها المفزعة، ومثال لأدوار الأقليات الدينية في تأسيس إيديولوجيتها وما وصلت إليه. انتمى المطران الراحل إلى عائلة كانت في القلب من كل هذا. فإدمون رباط، خال كابوتشي، كان مع أمين الريحاني وجورج انطونيوس ونقولا زيادة ونبيه فارس وغيرهم، من الرعيل الثاني من مؤسسي إيديولوجيا القومية العربية بين الحربين، الأسماء نفسها التي يُذكر ميشيل عفلق بينها. فالأقليات الدينية في تحمسها لفكرة العروبة أكثر من غيرها، كانت في وسط أهوال سقوط السلطنة العثمانية وزمن الإبادات العرقية الواسعة، تبحث عن ضمان للبقاء ولتمثيل سياسي علماني قائم على المساواة. هكذا لم تأت علاقتها بحزب البعث، منذ لحظة تأسيسه عرضاً، بل ابنة لفزع تحول إلى إيمان أعمى. الهزائم العربية، الواحدة تلو الأخرى، والمهانة في القدس على أيدي قوات الاحتلال، الكنائس المحاصرة والكهنة المضروبون بكعوب البنادق الإسرائيلية على رؤوسهم، الأقلية المسيحية التي تكاد تكون قد صُفيت تحت الاحتلال الأميركي للعراق، كل ذلك انتهى بكابوتشي وغيره إلى قسوة مذهلة، وتمسك يائس بمُثُل لم يعد لها وجود منذ عقود سوى في صورة ضلالات. 

كتبت جريدة "الأخبار" اللبنانية قبل أسبوع، موضوعاً بعنوان "حارس القدس في مواجهة أم هارون"، في مقارنة بين المسلسل السوري عن المطران، والمسلسل الكويتي الذي اتهم بالترويج للتطبيع لتناوله حياة قابلة يهودية في منطقة الخليج. "حارس القدس"، بحسب الجريدة، هو أحد جبهات الحروب الدرامية الدائرة في المنطقة، على خطوط التحالفات الإقليمية، وأدواتها هي المزايدة بسِير حياة أبناء الأقليات. لا يخيب المسلسل ظنوننا فالحلقات الأولى من "حارس القدس"، تبدو معنية بالحاضر السوري وترسيخ الرواية النظامية للحرب الدائرة هناك، أكثر من أي شيء آخر. وبالطبع يقف كابوتشي، في الدراما كما كان في الحقيقة، إلى جانب نظام الأسد. لا يزيف صنّاع "حارس القدس" التاريخ، ولا يسردونه بدقة أيضاً، ولا يجب أن يعنينا هذا في الحقيقة كثيراً، فما يقدمه المسلسل عن غير قصد هو ملحمة حزينة وهزيلة للبطولة التي انتهت إلى الجنون، ملحمة لزمننا ولمنطقتنا، وبالقدر نفسه لكل زمن ومكان آخر.  
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024