سوري في ألمانيا.. يكتشف الألم ويراسل غريبة في المنام

محمد دياب

الأربعاء 2020/07/15
يصدمك الألم، يهزّك من جذورك، يجعلك أكثر نقاءً من الداخل، في سريرتك، وأشد إحساساً بالآخرين. يوقظ الألم وعيك، فتعيد النظر بما آمنت به سابقاً. يدفعك لتكون أصدق مع نفسك، أشد صبراً على الأذى، أكثر ذكاء في التعامل مع الآخرين الذين رقّ قلبك لهم، فلا تعود تُخدعَ بسهولة كما في الماضي.
لكن هذا كله لا يدوم. 
صعب وممضٌّ هو العيش في دوامة الإفراط في فهم أغوار الناس وذاتك، إدراك دوافعهم ودوافعك، وحقيقة أن الحياة عبثية ومهينة، وكل شيء فيها يشبه الدخان. فمهما حجّر الوعي قلب الأنسان، لا يمكنه العيش بوعيه الشّقيِّ الأليم هذا. 

الوحدة العميقة مصير الأرواح الهائمة. العيون المبصرة أبعد مما ينبغي، الناس الذين يفرطون في التفكير والشعور أكثر مما ينبغي، قد تدمرهم الحقيقة المحتّمة الصارمة. 
تودّ لو أنك لم تغرق في هذه الأعماق التاعسة والمظلمة، التي تبدي العالم والبشر، أفعالهم وكلماتهم، أشدّ وضوحاً في ذلك الظلام. لو أنك لم تع تلك النوايا، وعاجز عن كشف الحقيقي من المزيّف، وأنه ليس من حقيقي ولا مزيف، وهما سيان. تودّ أن تستمر في خداع نفسك بنفسك، ألّا تشعر، ألا تفكّر، ولا تتذكر. 

لكن الإنسان يحتاج إلى إغراق نفسه في ظلمة الحقائق المؤلمة بين وقت وآخر. إلى أن يُخدع، يصدّق ويثق، ويقلع عن الشك بنفسه وبالآخرين. أن تثق بهم، بالحياة، وبنفسك. أن تؤمن بشيء ما. أن تكون بطلاً في قصّة أحدهم. 

لكنك مهما فعلت وبذلت من جهد، لن تستعيد ما أفقدك إياه الألم، وعرّفك به الألم. لكن هيهات لامرئ أن يستردّ ما كان وهماً؟! 
ألم يكن من الأفضل أن تظل ساذجاً؟ مصفقاً لاهياً مع جمهور المصفقين اللاهين؟ 
لقد خرجت من القطيع، ولن يسعك العودة إليه. 
إلى أين وصل بك التفكير، إذاً؟ الفلسفة؟ الكتابة؟ لتصبح أنت المهزلة! والنكتة السخيفة التي ينخرط الجميع في التندّر عليها. لقد وصلت بقدميك إلى الهاوية. سحقاً للعقل إذاً. أليس كذلك؟ العقل لا يقود إلا إلى مكان واحد. مكان يبدو فيه العالم والأشياء في وضوح تام مخيف، وبلا جدوى، حيث الحياة على حقيقتها العارية. حقيقة أن الحياة قيد يشقى به العاقل ويودّ التخلّص منه. حقيقة أن العيش متوالية لانهائية من الصراعات والآلام.

***
وتروح تندم على كل مرة فتحت فيها قلبك للآخرين وحدّثتهم بإخلاص عن نفسك وأفكارك، عن ماضيك وخيالاتك، رغباتك وآلامك. 
تندم مهما بدا لك أنك لن تندم. لذا، فالأفضل لدى شعورك بانسجام ما مع شخص ما، أن تختار حذراً وبعناية ما تشاركه فيه، ما تفصح له عنه بدافع عاطفي. أن تشاركه ما لا يجعلك تندم وقتاً مديداً. ما لا يدفعك إلى الشعور بالمرارة، بالاشمئزاز من حقيقة أنك أفصحت له بالكثير، ما دام سيصبح غريباً عنك، وستصيران غريبين، كما كنتما قبل أن تعرفه ويعرفك. 
لا مرارة في أن تكون ساذجاً بما يكفي للوقوع في غرام أحدهم، إحداهن. لا بأس ولا ضير في ذلك. فهذا النوع من السذاجة يلطّف الحياة، كما يلطّفها الانحراف. فالحب قد لا يكون سوى نوع من الانحراف. دائماً عليك أن تحذر وتخشى الإفراط في التعلق بشخص ما، إلى حدّ قبولك بأن تصير غبياً ومثيراً للشفقة.

أكره البديهيات، الملايين الغارقين في حب البديهيّات العقلية والعاطفية. أنفر وأقرف من البديهيات وملاينها، وتصيبني بالغثيان والتقيّؤ. 
هناك ملايين البديهيات التي يداوم الفسابكة على تدوينها ونشرها، فلاقت رواجاً ساعد على شهرة البسطاء الرومانسيين وإيهامهم بأنهم عباقرة وأدباء وفلاسفة. شهرة قطيعيّة هي شهرة شعراء الفايسبوك، أدبائه وفلاسفته. 
يصبح العالم أفضل بكثير لو توقّفنا عن وضع مقاييس عامة ومشتركة للجمال. لو تقبّلنا فكرة أن الواحد منا مختلف عن الآخرين، في الأسلوب وشكل التعبير وطريقة التفكير.

***
نهضت للتو من غفوة لم تطل أكثر من دقائق. أبصرت في غفوتي مناماً غريباً لم يستغرق سوى ثوانٍ معدودة. منام عذب خفيف كالغفوة الصباحية التي زارني فيها المنام، فرأيتني فيه جالساً إلى مكتبي في المسرح، مكان عملي. 
كان الوقت عصراً والجو هادئاً في يومٍ صيفي. الشمس في وسط السماء، يصلني ضوؤها من النافذة خلفي، وتلقي أنوارها على ظهري وشعري. ببصر شارد، أنظر من النافذة إياها إلى النهر والجسر والأشجار إلى يميني. مارّة وأطفال يلعبون فوق الأعشاب القصيرة التي أصبحت مقيلاً للمدمنين والمشرّدين. يجتمعون وينامون مع كلابهم على العشب طوال أيام الصيف، ويدخّنون الحشيش. 

وهناك المقهى المتواضع على ضفّة النهر. مقهى يقدّم لزبائنه المبتهجين البيرة الباردة وبعض الوجبات البسيطة السريعة.
شارد الذهن أبصر من هذه النافذة المشاهد التي تنبهني إلى وحدتي طوال الأعوام التي عشتها هنا في هذا المكان بألمانيا. 
غارقاً في شرودي، تؤاسيني شمس النافذة، تداعب ذراعي ولحيتي. ومن مدخل المسرح قبالتي، تتسلل الشمس الدافئة وتلقي نورها على صدري البارد. 
صدرد بارد، سكنته من سنين اللاطمأنية المزروعة في عيني المنطفئتين من فرط وحدتي. 

***
فجأة، ما أن دخلت المسرحَ، حتى تكسّر سكون وحدتي الشجيّ، تلاشى في وقع خطواتك وضحكتك. ضحكتك إياها في الأماكن كلها، وعندما تتحرك شفتيك بأول كلمة وانت تنظرين إلى الوجوه. 
ودخلتِ إلى مكتبي وكالعادة، فأخذتِ تربّتين على كتفيكِ مع ابتسامة مضحكة وحزينة، إشارة إلى عناق فرضت علينا الظروف الحالية تفاديه. كنتِ جميلة كالعادة، وكنتُ مبتهجاً برؤيتك، سعيداً بحضورك. لكننا غرباء، مجرد زميلين يعملان في مكان واحد. وربما فقدت قدرتي العاطفية على المبادرة. لا أدري ولا أعلم هل هذا الإهتمام من طرف واحد أم من طرفين. 
أخبرتكِ في الليلة الماضية أنني سأنتقل للعمل في مكان آخر عما قريب. أغضبكِ ذلك، قلتِ لي: لا، أرجوك ابقَ هنا، تحزنني مغادرتك. هل كنتِ تعنين ذلك حقاً، أم أنك عبّرتِ عن لطف عمومي محايد يقتضيه تهذيب عابر، حيال زميل مغادر؟ لست أدري. قد أكون مخطئاً. ففي عينيك، ومن نظرتك إلي حينما تمرين قربي، وفيما نتحادث تلك الأحاديث البسيطة التي لم  يتجاوز أطولها دقائق خمس ربما، كنت أشعر باهتمامك بي.
لكن كما ترين، قد أكون مخطئاً. فهكذا أنا دائماً، غارق في عالمي الخاص، في تفاصيله وتحليلها. عالمي هذا، الغريب أنا فيه وعنه، وذاك البعيد الذي غادرته وابتعدت عنه، وصرت غريبه، هنا في هذه البلاد الباردة.
هل أفقدتك الحياة -حياتك أنت- مرة قواك العاطفية اللازمة للمبادرة إلى التعبير عن الاهتمام والرغبة في التقرّب من أحدهم؟ لا أتمنى أن يكون هذا أصابك مثلي. أدرك كم يكدّر هذا الصدود القلب والحياة. أدرك كم هو مريع. 
ربما من الغريب أن تقرأي رسالتي هذه الآن. أن أتحدث إليك فجأة بهذه الطريقة عن مشاعري. وأن تكون قد تكوّنت لدي مشاعر عميقة نحوك، فيما لم نتعرف إلا تعارف الغريب إلى غريب مثله في البلد الغريب. 
في تلك الشهور القليلة من تعارفنا، كنت أنسى ما يشغل ذهني للحظات كلما لمحتك تمرين، كلما التقت عيوننا في المسرح، وأثناء المشي بين المكاتب وفي الممرّات. 
في منامي القصير دخلتِ إلى مكتبي بفستان ريفيّ بسيط. حدث ذلك قبل ذهابكِ إلى غرفة المكياج والأزياء لتتحضري للعرض المسرحيّ المقبل. بعد عناقنا من بُعد، تماشياً مع إجراءات الوقاية من الوباء، وابتسامتك الحزينة الرقيقة، وحديثنا لدقائق، قلتِ لي: آه تذكرتُ - ومال رأسك فجأة على كتفك، فانتزعتِ شيئاً من أذنك، ثم من الأذن الأخرى، ووضعتِ الحلق في يدي - وتابعت: أتركه لديك الآن وأسترده في نهاية العرض، هل هذا ممكن؟ بسعادة طفولية قلتُ لكِ: طبعاً طبعاً، بل يمكنني أن أحتفظ به دائماً. 
في تلك اللحظة تحديداً تشجّعت وتخلّيتُ عن رصانتي. أرخيتُ قبضتي ونظرتُ إلى الحلقتين. كانتا بسيطتين لامعتين يتوسّط كلاً منهما حجر صغير أزرق كالسماء تماماً. قرّبتُ يدي من وجهي ورحتُ أشمّ الحلق، رائحتكِ، هكذا فجأة، في حضورك أمام عينيكِ اللتين لم أرفع بصري إليهما... وانقطع المنام فجأة وانتهى. وقبل يقظتي تناهت إلى مسمعي بضع كلمات منكِ، بنبرتك الرقيقة: ماذا تفعل أيها المجنون؟ 
للأسف، لم أستطع النظر إليكِ بعد ذلك لأتبين ردّ فعلك على تصرّفي الذي لم أستطع تركه متخيلاً، فأفلت مني رغماً عني. هل يمكنني أن أعرف ردّ فعلك الآن؟ لو أقول لكِ الآن: أريد أن أغرق بكِ، بأشيائك، كما في منامي. 
ماذا تقولين أيتها الغريبة، القريبة من قلبي، الجميلة جمال الألم؟
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024