سينما الوباء (2): تنميطات غربية ونهايات سعيدة

محمد صبحي

الأحد 2020/04/19
يُطلب من الناس عدم مغادرة منازلهم، وإذا فعلوا ذلك، يُعدّ اللمس من المحرّمات. موظفو المستشفيات ومقدمو الخدمات الصحية مرهقون إلى أقصى حد. المتسوقون الهلعون يفرغون أرفف متاجر البقالة. تُغلق المطاعم والمقاهي ودور السينما وكل مكان عام يحجّ إليه الناس للتجمّع وتزجية الوقت. تتزايد المخاوف بشان الأمور المادية وتطفو على سطح المخاوف الصحية المرتبطة بالوباء. طوال الوقت، هناك فزع رهيب من أن الوضع سيزداد سوءاً.

ربما تعتقد أن مقاربات هوليوود للأوبئة القاتلة، التي كانت مسلية في الماضي، ستكون آخر شيء يريد الناس مشاهدته أثناء وجودهم في المنزل في خضم أزمة وبائية وصحية فعلية. لكن الغريب أن هذا ما لا يبدو عليه الحال. فقد اكتسب اثنان من الأفلام الضخمة المتمحورة حول فيروس قاتل، شعبية جديدة.


الفيلمان هما "عدوى" (2011، ستيفن سودربيرغ) و"تفشّي" (1995، فولفغانغ بيترسن)، ويجمعهما أكثر من مشترك، بانتمائهما إلى أفلام هوليوود ضخمة الإنتاج نسبياً وتولّت أسماء معروفة الأدوار الرئيسة فيهما. أيضاً، من ناحية القصة والخط الدرامي للأحداث، فتركيزهما الأساسي على تداعيات انتشار فيروس قاتل وتوابع ذلك مجتمعياً. لكن "كونتاجين" يضيف للتسلية الهوليوودية المعتادة في هذا النوع من الأفلام، شيئا من النقد الاجتماعي من خلال متابعته الانحطاط الإنساني وتدهور القيم الاخلاقية في وجود خطر بيولوجي يهدد بقاء البشرية. في هذا الصدد، يمثّل "عدوى" عملة نادرة في مسار طويل من الإنتاجات "الخفيفة" المغرقة في مطاردات متدثرة بالعلم والمعرفة لملاحقة خطر غير مرئي، بينما تتناسى غيره من أخطار اجتماعية يزداد إلحاحها وبروزها في مثل تلك الأوقات الخطرة.


لسنوات، صنعت هوليوود أفلاماً ومسلسلات تلفزيونية عن فيروسات غامضة تصيب الناس وتُمرضهم وتقتلهم بأعداد كبيرة. اعتادت مثل هذه القصص الكارثية - المرصَّعة بنجوم الشاشة - سلك طرق هروبية أكثر من إحساسها بالقلق والتدبّر في الحالة الإنسانية، في نهج أقرب إلى الخيال العلمي منه إلى الواقع. أفلام تتشابه في أنماطها السردية متشابهة. فإذا كان الفيلم واقعياً، يصبح مصدر الفيروس آسيا أو أفريقيا، ثم ينتشر في أنحاء العالم، وإذا كان خيالياً، فالهدف وراء غزو الكائنات الفضائية للأرض هو تدميرها عبر نشر فيروس قاتل في مكان ما في أميركا. ثم هناك البطل (وفي أحيان نادرة تؤنّث البطولة) الأبيض المنوط به مكافحة انتشار الفيروس وإيجاد علاج له وإنقاذ العالم. ودائماً، دائماً ثمة نهاية سعيدة تنتظر في نهاية الطريق المظلمة.

بين البداية والنهاية، يختلف تناول كل الفيلم لتداعيات انتشار الفيروس، على صعيد المجتمع وعلاقات الأفراد ببعضهم أو علاقتهم مع السلطة. حتى إن هناك صراعات ضمنية تظهر داخل تلك الصراعات الكبرى، تبرزها أزمة الوباء، مثل الصراع بين السلطة والميديا، وصراع الإنسان مع إيمانه الديني، وصراعه مع نفسه عندما يتوقف ترس الآلة الجهنمية اليومية ويجد نفسه في مواجهة نفسه.


المصدر

تتبع أغلب أفلام الوباء نمطاً روائياً يتشابه في مكونات دراماه وتطورات سرديته. في القلب منها دائماً، ثمة رجل أبيض يحاول الوصول إلى مصدر الفيروس القاتل وإنقاذ العالم. تتبُّع المصدر لا يعني بالضرورة تدقيقاً تاريخياً أو علمياً، لان أغلب تلك الفيروسات السينمائية يأتي من أفريقيا وآسيا. رغم أن أكثر الجوائح الفيروسية في تاريخنا المعاصر "وباء الإنفلونزا" عام 1918 المعروف بـ "الإنفلونزا الإسبانية"، ظهرت في أوروبا، وأودت بحياة أكثر من 50 مليون شخص على مستوى العالم.

تأخذ أفلام هوليوود مساراً مختلفاً تماماً، إذ يبدأ الوباء من أفريقيا أو أدغال مكان عالم ثالثي ما، ليغزو العالم المتحضر. هذا التنميط يقول شيئاً، فالأقليات والغرباء تحمّلوا مسؤولية الأوبئة عبر التاريخ. مع ظهور وباء سارس، في أوائل الألفية الحالية، كان الآسيويون هم الملامون. يتكرر الأمر نفسه حالياً، مع اتهام الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الصين، بأنها وراء فيروس كورونا المستجد، بل وتكرار الحديث عنه إعلامياً باعتباره "الفيروس الصيني"، قبل أن يعود إلى رشده ويسمّيه باسمه، دون أن يعني ذلك تعاملاً عقلانياً ومسؤولاً من جانب الرجل البرتقالي ساكن البيت الأبيض في بقية الشؤون المتعلقة بالفيروس، حتى إنه عاد في اليومين الأخيرين لعادته الأثيرة وطلب فتح تحقيق استخباراتي حول ما إذا كان فيروس كورونا المستجد جرت هندسته في مختبر صيني.


في بداية الثمانينيات، مع ظهور مع فيروس نقص المناعة المكتسبة (المعروف بالإيدز)، الذي ذهب ضحيته ملايين الأشخاص، كان الدور على المثليين في تحمُّل وزر ظهور الفيروس. ومن قبل كل ذلك، في القرون الوسطى، أيام الموت الأسود (الطاعون) في أوروبا؛ اتُهِم اليهود بالمسؤولية عن ظهور الفيروس الذي قتل نصف سكّان أوروبا وقتذاك. حتى في بقية السرديات، المستوحاة من خيالات علمية وديستوبيات مستقبلية، يأتي الفيروس من الفضاء الخارجي، لتدمير الإنسانية، والتي هي على وجه التحديد الإنسان الغربي. كما يحدث في أفلام مثل "12 قرداً" و"سلالة أندروميدا"، حيث تستخدم حركة إرهابية فيروساً فضائياً بيولوجياً لتدمير البشرية.

لكن الثابت تاريخياً، والغائب تماماً في كل تلك السرديات، أن الأوروبيون أنفسهم هم أول مستخدمي ذلك السلاح القاتل، عندما وصلوا الأميركتين في القرن الخامس عشر، وجلبوا معهم عدداً من الأمراض الجديدة المُعدية، من بينها مرض الجدري. وخلال هذه الفترة، أودى الجدري بحياة معظم السكان في الأميركتين. وساعد هذا الوباء الأوروبيين على استعمار وتطوير المناطق التي تم إخلاؤها، وتغيير تاريخ القارتين.


صراعات تابعة

يخلق ظهور فيروس قاتل صراعات تابعة، منبعها دائماً التشكّك في الرواية الرسمية، وخيال الأزمات المسيطر على الناس في أوقات تتشابه في شحّ اليقين بقدر تكاثر الرعب. مثال تلك الصراعات يمكن العثور عليها في فضاءات تداخُل الأحياز والسلطات المتفاعلة – بشكل مباشر أو غير مباشر – مع تطورات انتشار الفيروس. تنشأ صراعات بين السلطات الرسمية ووسائل الإعلام، تختلف حدّتها ونتائجها وفعاليتها وفقاً للحالة السياسية السائدة في كل بلد. إذ لا يغيّر الوباء من طبيعة العلاقة بين الميديا والسلطة، بل يؤكدها.

كذلك، يطفو صراع حتمي بين السلطة والمجتمع، تتحدّد قواعده، أيضاً، بحسب العلاقة السائدة مسبقاً بين مكونات النسيج الاجتماعي وممثلي السلطة، وبالتالي لا يشذّ التفاوض على قرارات الإغلاق وتقييد الحريات وأنظمة المراقبة،وحدوده ونتائجه، عن بقية المسائل الاجتماعية الأخرى المفترض النقاش بشأنها في المجال العام. ثم هناك الصراع المتوقع في كل أزمة، عالمية كانت أم محلية، بين الإيمان الغيبي والمسلك العلماني.

خوفاً من ردّ فعل المجتمع، تحاول السلطة - في البداية - التعتيم على الوباء أو التخفيف من خطورته، ببثّ أخبار كاذبة للإعلام أو ضرب مصداقية وسائل الإعلام، بل وتهديدها ومحاولة إسكاتها. التجربة الصينية في كتم أصوات معارضي سياستها لمحاربة فيروس كورونا ليست سابقة فريدة، بل هي انعكاس واقعي لما فعلته سلطات الصحة الأميركية في فيلم "ذعر في الشوارع" (1950، إيليا كازان)، بعدم إخبار الصحافة عن ظهور طاعون رئوي في مدينة نيوأورليانز. أو ربما يشبه ما يحدث في فيلم "القاتل الذي طارد نيويورك" (1950، إيرل ماكفوي)، الذي يتناول انتشار خطر الجدري في مدينة نيويورك عام 1947، ولا تكشف السلطات الحكومية للإعلام والمواطنين عن نفاذ اللقاح.

في مقلب آخر، هناك نصيب لنظريات المؤامرة، ففي فيلم "عدوى" أيضاً، ثمة مدوِّن يكذِّب بيانات السلطات الرسمية حول تفشّي الفيروس ويدّعي أن الحكومة تخفي علاجاً محتملاً، فيتمرّد الناس على تعليماتها ويتدفقون الى الصيدليات بحثا عن الدواء، فتعم الفوضى وأعمال العنف. وفي الوقت نفسه ينشر المدوِّن نظريات المؤامرات والمعلومات الكاذبة عبر شبكة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعية، في مثال يذكّر كثيراً - رغم الاختلاف الكبير في الموقع والسلطة -  بما يفعله حالياً دونالد ترامب من نشر أكاذيب وافتعال أعداء وبيع أوهام.

في القرن الثامن، كان الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك أول من فرض الحجر الصحّي على مرضى الجذام في اول مستشفى (بيمارستان) في دمشق، لتجنب اختلاطهم ببقية المرضى في المستشفى ومنع تفشّي المرض. وفي زمن الموت الأسود (الطاعون) في أوروبا، في منتصف القرن الرابع عشر، أدى تفشّي الوباء لوضع تدابير شديدة لمكافحة العدوى، ففرض حاكم فينيسيا الحجر الصحّي على كل من دخل المدينة لمدة 40 يوماً. ومن هنا عرفت اللغة الإنكليزية كلمة ""quarantine أي الحجر الصحي، وهي مشتقة من الكلمات الإيطالية (Quaranta Giorni) والتي تعني أربعين يوماً.

لا يزال الحجر الصحي أفضل سلاح ضد وباء فتّاك، لكن التاريخ يخبرنا برفض المجتمعات له وتمرّدها على السلطات الراعية لتنفيذه. ربما لأن الإنسان في النهاية حيوان اجتماعي، لا يرضى بتقييد حريّاته وقلب روتينه اليومي، كما يظهر في الفيلم البريطاني "القلعة" (1938، كينغ فيدور) حيث يرفض عمال المناجم في بلدة تعدين ويلزية نصائح طبيب شاب مثالي بالتوقف عن ارتياد الحانات من أجل احتواء وباء السلّ المنتشر بينهم.

الآن، يدفع الناس عنهم العدوى الفيروسية باتباع التعليمات الصحية وشراء المعقمات والكمّامات، لكن في العصور الوسطى كان الأوروبيون يتجنبّون نصائح الأطباء، الذين اعتبروهم سحرة، وبدلاً من ذلك لجأوا إلى السماء والدعاء والصلاة طلباً للمغفرة ورفع البلاء والمحنة، لإيمانهم أن الوباء عقاب إلهي على شرور وخطايا البشر. لكن، كما نرى الآن، في إيران كما في أميركا، الصلوات الجماعية تفعل العكس تماماً: المزيد من الضحايا. لأنها في النهاية تمثل فرصة مجانية لانتشار الوباء بين أعداد كبيرة.

في فيلم ""طاعون أسود" (2002، ألبرتو سيامّا) الدائرة أحداثه في زمن الموت الأسود في أوروبا، يتوسّل القرويون إلى ربّهم أن يغفر لهم ذنوبهم ويرفع عنهم لعنة الوباء، حتى إنهم يمارسون بعض الطقوس كربلائية الطابع في سبيل ذلك. وفي فيلم "الستار المطلي" (2006، جون كوران) الدائرة أحداثه في العشرينيات من القرن الماضي، يتمرّد سكّان قرية صينية تفشّى فيها وباء الكوليرا على طبيب إنكليزي، عندما طلب منهم نقل موتاهم من المقبرة المجاورة للنهر، للحيلولة دون تلوّث المياه، لإيمانهم العقائدي أن على الموتى أن يُدفنوا إلى جانب النهر.


نهايات سعيدة

تخلق المشاهد المليئة بالحركة والأشرار الخياليين بعض المسافة من الواقع. ويمكن أن تعمل كنافذة مريحة أيضاً، تُدخل بعض الهواء المنعش بفضل قصصها المروّعة تحديداً. يختزن كثير من تلك الأفلام الهوليوودية في نهايته لحظات غوث وانفراج، حيث يسيطر الأبطال والبطلات على العدوى المتفشية ويلقمون الفيلم نهايته السعيدة. معمار تلك الأفلام مشيّد في الأساس للتخديم على تلك الفكرة المريحة للغاية بشأن الفرجة على فيلم وبائي: فهي تعتمد بناء سيناريو كلاسيكي، ببداية ووسط ونهاية، وبالتالي يمكنها مداعبة الأمل الإنساني. سيرى المشاهدون نهاية الوباء من قبل حتى العثور على لقاح، لتتحوّل بقية مدة الفيلم إلى ذلك الانتظار المتواطئ لإكمال دائرة الخواتيم الحسنة.

دائماً تنتهي أفلام الوباء الهوليوودية بنهاية سعيدة: يجد البطل لقاحاً فعّالاً خلال فترة وجيزة وينقذ العالم من الفيروس. رغم أن تطوير لقاح لفيروس جديد يحتاج وقتاً طويلاً (شهور وربما سنوات). في الواقع، معظم الأوبئة تنتهي وينتهي تأثيرها لأسباب أخرى غالباً. لأن الفيروس قتل المجموعات الأكثر عرضة للخطر (risk groups) من ضعاف المناعة، أو لنجاعة إجراءات العزل الاجتماعي في التضييق على انتشاره. لكن ضرورات التسلية الهوليوودية تلتزم اتباع خلطة درامية جاذبة تستثمر في تضخيم المخاوف والخسائر، كتنبؤها بانمحاء الإنسانية عن وجه الأرض نتيجة فيروس ما، مثلما يرد في فيلم "12 قرداً"، أو "أنا أسطورة" (2007، فرانسيس لورانس)، حيث يقضي فيروس مخلّق على كل سكان نيويورك ما عدا شخص واحد يملك المناعة ضده (هو أيضاً، تماماً كما توقعت، خبير فيروسات)!

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024