ماذا بقي لجوديت دايفس من الثورة؟

روجيه عوطة

الجمعة 2019/02/15
لا يتوقف المشاهد عن الضحك في أثناء تفرجه على "كل ما تبقى لي من الثورة"، للامعة جوديت دايفس، والذي تعرضه الصالات الفرنسية حالياً. كما لو أن هذا الفيلم كناية عن طرفة سياسية طويلة، لا مبالغة فيها ولا سماجة. وعلى اثر ضحكه هذا، يحول عنوانه إلى استفهام، يحاول الإجابة عليه: ماذا بقي لدايفس من الثورة؟

لكن، وقبل صياغة الإجابة، لا بد من القول أن الثورة هنا ليست ثورة بطلة الفيلم، التي تُدعى انجيلا (دايفس نفسها)، بقدر ما هي ثورة أهلها. إذ انها ابنة لأم وأب ماويين سابقين، ينتميان إلى جيل 68، وهما انفصلا في بداية التسعينات، لا سيما بعدما وجدا في تكوينهما لأسرة في حين نقدهما لها كمؤسسة برجوازية أمراً غريباً. إذاً، انجيلا هي ابنة هذه البيئة الثورية، التي، وفي مطلع الفيلم، تخذلها عبر ربَّي عملها، اليساريَين أيضاً، بإقالتهما لها نتيجة عدم قدرتهما على دفع راتبها.

العطالة هي أول تَرِكات ثورة ذلك الجيل. أما التركة الثانية، فتظهر عندما تعقد انجيلا النية على تنظيم اجتماع أسبوعي مع الرفاق الذين يطمحون إلى الثورة اياها، بحيث يتكشف كل اجتماع عن كونه بلا برنامج فعلي، بل النقاش خلاله سرعان ما ينقلب إلى سوء تفاهم. بالتالي، التركة الثانية هو نوع من الغياب، وموضوعه، مشروع تغييري بمعالم واضحة، وهذا الغياب يفضي بالطبع إلى الضياع. وهناك تركة ثالثة، وهي العزلة في الثورة، التي يصح القول انها تنم عن تقاعس الجيل القديم في مساندة الجيل الجديد في معركته، مستبدلاً ذلك باستغلال حماسته فقط. فعندما تواجه انجيلا عادات الطبقة الوسطى وتقاليدها السطحية في منزل شقيقتها، تشعر أنها بمفردها أمام مجتمع بأكمله. أما رفيقها الوحيد والمفترض في تلك اللحظة، وهو والدها، فقد كان يمارس دوره كجَدّ مع الأطفال. كل هذه التركات تنتج الغضب، الذي يشكل منفذاً من العطالة والضياع والعزلة، لكنه في الوقت نفسه، لا يودي إلى أي مكان.


لكن، في زحمة الغضب، يلمع شيء ما، وهو لقاء أنجيلا بالرفيق سعيد، الذي يقع في حبها. هذا اللقاء، ونتيجة تعثره، يؤدي إلى حرف حكاية الفيلم، بحيث تدور حول الثورة، التي تبدأ في منزل الأب لتطاول كل المجتمع، ولتصير حكاية تدور قبل هذا المنزل وهذا المجتمع، أي في صلة انجيلا بأمها. إذ تكتشف أن أمها طرحت على ابيها ان تنتقل الابنة للعيش معها، أي أنها لم تتخلَّ عنها كما كان قد أخبرها ابوها نفسه سابقاً. إذاً، كانت تعيش في كذبة، ولم تشك فيها قبل هذا، ومن هنا، تذهب إلى امها، وهناك، في بلدة صغيرة، بعيدة من باريس، يقع أمران.

الأول، انها تتحدث مع امها، أو بالأحرى تكتشفها. والثاني، وفي نتيجة هذا الاكتشاف، يسقط وهم العائلة، الذي يختزله الصهر. ربما، من أفضل مشاهد الفيلم مشهد حوار الصهر مع صديقة انجيلا، حوار رجل الأعمال الماكروني مع الفنانة المناضلة، وانفجاره المباغت، لا حنقاً، ولا تهكماً، بل بؤساً ضدها. فكل هذه الشخصية التي يؤديها عن حاله، تضيق به. وهو، رغم كل تباهيه بالنجاح، لا يشعر به، بل هو مجرد ستر لتعاسته. لاحقاً، ينضم الصهر إلى صفوف الثورة، وحينها يكتشف ان كل نجاحه لا يعينه على صياغة جملة مفيدة واحدة للتعبير عما يريد.

بعد ذلك، تضمحل تركات الثورة، ولا يبقى منها سوى انجيلا، بحيث يغيب الأب والأم والشقيقة، وتمضي إلى سعيد. ماذا بقي من الثورة؟ لا شيء، وكل شيء. لا شيء، لأنها ثورة الأهل، ولا تُعدّ موجودة عندما لا يعودون أهلاً. لكن، كل شيء، لأنها اتاحت للإبنة ألا تعود ابنة، وحينها تستكمل اجتماعاتها مع الرفاق بطريقة أخرى.

ما حرر الابنة من بنوَّتها، ومن ثورة هذه البنوة، من تركاتها، هو الشك. الشك في سردية الأب، في صورة الأم، في نجاح الصهر، في سعادة الشقيقة، وقبل ذلك كله، وبالتوازي مع ذلك كله، الشك في الذات. هذا الشك هو فعل غائب يسارياً في الوقت الراهن. ولهذا، غالباً ما يأخذ الخطاب المؤامراتي محله. وعندما تركن اليه دايفس في فيلمها، تبدو أنها تشير إليه كسلاح النضج الثوري، وليس الإحباط ثم التنازل، وطبعاً، ليس الحب.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024