التباسات حزب الله الثلاثة

أسعد قطّان

الأحد 2020/05/17
من الصعب على المرء أن يتجنّب الانطباع أنّ حزب الله اليوم هو الرابح الأكبر على الساحة اللبنانيّة. فهو عرّاب تشكيل الحكومة الحاليّة، وهو ضابط الإيقاع كلّما انجرف أهل الحكم وراء خلافاتهم الصغيرة، وهو صاحب الكلمة الأخيرة في كلّ مرّة تضطرّ فيها المنظومة الحاكمة إلى التخلّي عن ترف الهوامش المطّاطة واتّخاذ قرار يتّسم بأهمّيّة ما.

ولكنّ الحزب الذي يبدو أنّه يتحكّم في اللعبة السياسيّة في لبنان ويديرها ببراعة، يتحرّك أيضاً في دائرة من الالتباسات. والمفارقة أنّ هذه الالتباسات بالذات هي التي تفضح أنّه ليس في منأى عن المعطوبيّة، وذلك بعكس الصورة التي يحلو له أن يرسمها عن ذاته.


ربّما يكون الالتباس الأوّل عنوانه السلاح. لقد أثبتت تجربة الأشهر الماضية أنّ الصراع بين إسرائيل وحزب الله يشبه الخلاف بين زوجين يعرفان أنّ لا شيء مشتركاً بينهما، ولكنّهما لا يستطيعان خوض "معركة" الطلاق لأنّهما تعوّدا أنّ يتناولا طعام الفطور معًا. لا شيء مشتركاً، ولكنّ قواعد الخلاف باتت معروفة، وكذلك حدوده، وهذه يجب أن تُحترم. هذا لا يمنع إسرائيل طبعاً من اختبار تفوّق قوّتها الضاربة في سوريا، وربّما في أماكن أخرى. ولكنّ لعبة الأخذ والردّ مع "الجارة" المحتلّة على الحدود اللبنانيّة مرسومة بدقّة الميزان ولا مكان فيها للانحراف والمغالاة. وهنا بالذات يكمن الالتباس. ما الفائدة من سلاح دقيق أو غير دقيق متكدّس لديك إذا كنت لا تقوى على استعماله؟ وأيّ ذهنيّة هي تلك التي تتشكّل في وعيك حين تعرف أنّك تمتلك سلاحاً مصيره أن يبقى في مستودعاته حتّى إشعار آخر؟

الالتباس الثاني يحيلنا إلى علاقة حزب الله بالدولة.

لقد بلغت سطوة الحزب حدّ إمساكه بمفاصل الدولة اللبنانيّة. ولكنّ الدولة، كما نظّر لها منظّروها، لا يمكن أن تتماهى مع حزب من الأحزاب، وهي بالتأكيد ليست "خلاصةً" للأحزاب في وطن من الأوطان. في الأنظمة الديمقراطيّة، الأحزاب تشارك في الحكم أو تعارض. ولكنّها لا تختزل الدولة. فالأحزاب مرآة الخيارات السياسيّة المختلفة. أمّا الدولة، فهي بيضة القبّان في المجتمع لأنّها تمثّل المشترك بين المواطنين وتضطلع بمهمّة حماية هذا المشترك. حتّى بشير الجميل في ذروة "انتصاره"بعد انتخابه رئيساً للجمهوريّة كان يدرك أنّ القاعدة الحزبيّة والإيديولوجيّة التي يأتي منها شيء وإعادة بناء الدولة شيء آخر. وحزب الله يدرك هذا طبعاً. يعرف، من جهة، أنّه يسيطر على الدولة أو يكاد. ولكنّه يعرف، من جهة أخرى، أنّه لا يقدر أن يصير الدولة لأنّها إذّاك ستتخلخل وتنهار. وهذا الانهيار سيستتبع انهيار المجتمع برمّته، بما فيه قاعدة حزب الله ذاتها. ربّما يعتقد الحزب أنّه يستطيع المحافظة على نوع من التوازن بين نزعته للسيطرة على الدولة وإحجامه عن أن يصير هو الدولة، لأنّه يحتاج إلى بقائها، ولو نسبيّاً، في استقلال عنه. ولكن هنا بالذات يكمن الالتباس. فخبرة الأشهر الماضية تثبت أنّ هذا التوازن شبه مستحيل، ولا سيّما في بلد يندفع مجتمعه إلى الهاوية بسبب الاهتراء الاقتصاديّ والإفلاس السياسيّ.


أمّا الالتباس الثالث، فيمكن توصيفه على أنّه التوتّر بين الإيديولوجيا والحياة. الحياة أقوى من الإيديولوجيا. والإيديولوجيا الدينيّة لا تشذّ عن هذه القاعدة. أمّا المعيار الذي يرسم الحدود بين الدين الأصيل والإيديولوجيا الدينيّة، فهو مدى قدرة الدين على أن يكون في خدمة الإنسان وخدمة الحياة. ليس من السهل تلمّس هذا المعيار، حتّى لدى الذين يدرسون كثيراً ويعرفون كثيراً. ولكنّ الأزمات الكبرى، كتلك التي يعيشها لبنان اليوم (ودول أخرى طبعاً في المدى العربيّ)، غالباً ما تمدّ الناس بحسّ جديد يتيح لهم أن يمسكوا بالخيط الرفيع الذي يفصل بين دين يخدم الحياة وإيديولوجيا دينيّة تتصادق مع إيقاعات الموت كي لا تصاب هي بالموت. ماذا يبقى من الإيديولوجيّات الكبرى حين يفتقر الناس وتغزوهم الحشرات وتطحنهم الأوبئة ويسحلهم الجوع؟ تبقى الإيديولوجيّات طبعاً، كلماتها الفضفاضة وشعاراتها الرنّانة. ولكنّ الناس يكونون قد هربوا منها، هذا إذا افترضنا أنّ الكوارث التي يتصدّر الموت موكبها قد أبقت لهم على هامش ما للهرب.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024