طلال حيدر.. زوربا البعلبكي

محمد حجيري

الإثنين 2020/09/14
ذات مرة، قال الصحافي الراحل غسان تويني: "اثنان أتوا من بعلبك، أحدهما مجنون ويريد أن يتمثّل بالعاقل، وهو رفيق شرف، والآخر عاقل ويريد أن يتمثل بالمجنون وهو طلال حيدر(*)"، وسأل تويني طلال حيدر: من أين تأتي بهذه الصور في شعرك؟ فأجابه: لو أعرف من أين تأتي ما كنتُ كتبتُها.

والحق ان توصيف حيدر بـ"المجنون"، والثَّناء على صوره الشعرية المكثفة والمدهشة، ربما يختصر جزءاً كبيراً من تجربته في الشعر، فهو لطالما لقب بـ"شاعر الصورة" و"زوربا البعلبكي" بحسب أنسي الحاج، الذي يقول في خواتمه "شعر طلال حيدر يخاطبنا كإخوة. من الصعب كتابة المحكيّ من دون مبالغات، ومن الصعب كتابة الحنين من دون أن يظهر على الصيغ والألفاظ شيءٌ من التكلّف، إلاّ على يد الصائغ الماهر. في شعر طلال حيدر يسيل الكلام كالماء والهواء، ولا تعود المبالغة مبالغة، بل تصبح سخاء، ولا يعود السخاء مبالغة، بل الحياة متدفّقة في تجاوز نفسها. شعره أغنية كيفما جاء. إغراءٌ لا تعرف شيطانه من ملاكه"... وهو مزاج متقلّب ومشرقط، عاشق متهور، ارستقراطي- اقطاعي متصعلك، ابن المحكية بقصيدة أقرب الى الفصحى الطافحة بالندى، يحضر سهل البقاع بعاداته البدوية وعشبه وناسه وامتداده ويفرض المكان نفسه على الشعر الذي تغيب عنه المدينة ولغتها وأبوابها المفتوحة على الغرب. مَن يقرأ قصائده، لا بدّ أن يتخيل بيت الشَعر والراعي والقصب والقهوة العربية والخيول السارحة في الروابي والسهوب، من يقرأه أيضاً يشعر بسفر الكلمة بين المناطق المدن العربية، ومع ذلك كان الشاعر يسقط في لحظة، في مستنقع الكتابة عن المستبدّ، كان يصيغ أنشودة من ندى الماء والزهر، ليقولها في مناسبات الخراب، وهو يمدح، يغازل، يمجد، يستعيد الذاكرة، يراهق، يرقص، ويغني، يقاوم، يشطح، يكذب على سجيته، يخترع الأساطير حول قصائده، او يتبنى الأساطير التي تقال باعتبارها حكاية جاذبة، وأحياناً يغيب غيبات المؤمن المنتظر نزول الأولياء الصالحين... هو المقلّ، في الكتب والمفردات، الذي ينظر الجمهور إلى بعض قصائده كأيقونات لغوية وغنائية... بدأت رحلته الحقيقية مع الشعر حينما كتب قصيدة "فخار" وكان عمره 17 عاماً، ويقول فيها:
 "نيال فخارا لها الجره
فرحان عندو عيد
بيشرب ع طول نبيد
سكران عمرو ما صحي مرّا
ومدري خدودو ليش محمرّا
تخمين بوَّس شي مرا سمرا
تمّا غفي عا تمّ هالجره".

حينها سمعه الشاعر ميشيل طراد، أحد الكبار الذين أسهموا في تطور قصيدة الشعر اللبناني المحكي، فقال: الآن أنا مرتاح لوجود من يكمل الطريق، وكان يقصد طريق الشعر المحكي. كتب طلال حيدر في بداياته، قصيدة الشعر الفصيح، لكنه لم يجدها تعبّر عما بداخله من مشاعر، كما وجد في الأوزان والبحور الشعرية قوالب جامدة يمكنها أن تسجن الشعر، وتجعل الشاعر يستنسخ معانيه وأحاسيسه في قصائده المختلفة. ورغم ذلك يرى حيدر أن الشعر المحكي رهان، لكنه ليس بديلاً من الشعر الفصيح، ويؤمن بقيمة مطلقة بمقولة ابن الأثير: الأبلغ هو ما بقي على اللسان.

طلال حيدر شاعر يصفي القصيدة كثيراً، بحسب الناقدة خالدة سعيد، "ورث الصناعة عن سعيد عقل من دون أن يفقد العفوية التي ميّزت ميشال طراد وبلغت أحياناً حدّ الفجاجة عنده"، بحسب مودي بيطار في مقابلة نُشرت في مجلة "الوسط" المحتجبة. في مقدمته لـ"جلنار" الذي كتبه ميشال طراد، سمى ما يكتب بالمحكية شعراً، وكان يعتبر قبل ذلك مجرد "قول" ودون الشعر المكتوب بالفصحى مرتبة. يقول "انا لم آت من زجل الضيع بل من كل الشعر في العالم، وتأثرت خصوصاً بسان جون برس وخوان ريموند خيمينيز الذي ناداني الى مساحات شعرية خارج المألوف. ولي مجموعة بالفرنسية هي "أوراق المطر"... كتب مسرحيات وشارك في أفلام وعمل في الصحافة، لكن قصيدة "وحدن" بقيت مقياساً لكل شيء في حياته، كأنها محطة مركزية. من جهة، لأنها جُعلت بطريقة خرافية، أغنية للمقاومة الفلسطينية. ومن جهة ثانية، لأنها بصوت فيروز ولحنها زياد الرحباني حين كان في مقتبل عمره، ومحبوكة بطريقة جميلة.

والحال انه منذ مدة، نقرأ في مواقع التواصل الاجتماعي، نصاً عنوانه "قصة أغنية وحدن" لطلال حيدر، ومضمون النص أن "الشاعر اعتاد أن يشرب فنجان قهوته الصباحي والمسائي على شرفة منزله المطلّة على غابة تقع على مقربة من منزله. مرّت فترة من الزمن عندما كان طلال حيدر يشرب قهوته الصباحيّة، وهو يلاحظ دخول ثلاثة شبان إلى الغابة في الصباح وخروجهم منها مساء، و كلّما دخلوا وخرجوا سلّموا على طلال... وكان هو يتساءل: ماذا يفعل هؤلاء الشبان داخل الغابة من الصباح الى المساء؟ إلى أن أتى اليوم الذي ألقى الشبان التحية على طلال حيدر في الصباح ودخلوا الغابة، وفي المساء خرج طلال حيدر ليشرب قهوته لكنه لم يرَ الشبان يخرجون فانتظرهم لكنهم لم يخرجوا، فقلق عليهم، إلى أن وصله خبر يقول: إنّ ثلاثة شبّان فلسطينيين قاموا بعملية فدائيّة وسط الكيان الصهيوني، وعندما شاهد صور الشبّان الثلاثة فوجئ أنّ الشبان الذين استشهدوا هم أنفسهم الشبان الذين اعتاد ان يتلقى التحية منهم في الصباح والمساء. فكتب قصيدته قائلاً: "وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان بيسكروا الغابي... بيضلوا متل الشتي يدقوا على بوابي"... ثمة سذاجة واضحة في هذه الرواية، وافتعال آت من بنات الخيال... المهم القول إن القصيدة غنتها فيروز ولحنها زياد، واختارها المخرج الفلسطيني - السوري فجر يعقوب عنواناً لفيلم وثائقي.

والفدائيون الذين قيل إن القصيدة تتحدث عنهم نفذوا عملية ضد اسرائيل في مستوطنة كريات شمونة، شمالي فلسطين المحتلة، صباح 11 نيسان 1974، وكان أبطالها من مقاتلي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة، وهم الفلسطيني منير المغربي (أبو خالد)، والحلبي السوري أحمد الشيخ محمود، والعراقي ياسين موسى فزاع الحوزاني (أبو هادي)، وقتلوا في تاريخ العملية ونشرت صورتهم جريدة "السفير". هذه القصة قيل فيها الكثير من التعليقات والتأويلات والتخمينات، خصوصاً أنها انتشرت بقوة، لكن ما لم ينتبه اليه كثيرون من أصحاب الضجيج والبهورة الثورية والرومانسية الجوفاء، أن القسم الأكبر من قصيدة طلال حيدر نشر في الملحق الثقافي لجريدة "النهار"، الأحد 16 تشرين الأول 1966 مرافقة للوحة للفنان الراحل رفيق شرف. أي أن القصيدة كتبت قبل 8 سنوات من العملية الفدائية. والمغزى الآخر أن طلال حيدر نفى صحّة القصة ذات مرة، وقال: "كتبت "وحدن" لابن البقاع، اللي بيبقى قاعد لحاله بالليل، وما بسمع شي غير صوت الديب والريح". يقول الكاتب فوزي باكير في موقع "جيل": "نص كهذا هو أكثر هشاشةً من أن يُحمّل بعملية فدائية، وشرسٌ بما يكفي ليعبّر عن تلك الوحدة"، و"لا يبدو النّص، فعليًا، مشابهًا للقصّة. الصور والمشاهد وكل بناء القصيدة المحكية أبعد ما يكون عن فعلٍ فدائي، وأقرب ما يكون إلى حميميّة مرتبطة بمكان وحالة يتعلّقان بمشهدٍ يعرفه الشاعر جيدًا: "وحدهن وجوهن وعتم الطريق/ عم يقطعوا الغابي/ وبإيدهن متل الشتي يدقوا البكي وهني على بوابي/ يا زمان.. من عمر فيّي العشب عالحيطان/ من قبل ما صار الشجر عالي".. هل تبنّى طلال حيدر القصّة ورواها؟ يسأل فوزي باكير ويقول: أجل، فعل ذلك، في فيلم "وحدن" لفجر يعقوب. لكنه، لمَن يعود إلى الفيلم ويشاهده، سيلاحظ أن طلال حيدر كان يروي القصة بوصفها أسطورةً، لا واقعة حقيقية، من دون أن يقرّ تمامًا بأن القصيدة كُتبت بهؤلاء. لكن يبدو أن الحكاية/الأسطورة راقت له. وهذا ما حاول فعله مع قصائد أخرى. 

لحن زياد الرحباني قصيدة "وحدن" وغنتها فيروز العام 1976، و فتح صوتها مسارات تأويل جديدة لكل كلمة وصورة من صور القصيدة، فقال طلال: "القصيدة لمن يغنيها وليست لمن يكتبها"، واعتبرها مفصلاً بين عصرين: عاصي وزياد، كما كانت "انت عمري" التي لحنها عبدالوهاب لأم كلثوم مفصلاً في تاريخ الأغنية العربية. يضيف: "الكلام عن فيروز يبقى اقلّ بكثير من صوتها. المغنون يبحثون عن قصائد ليغنوها، ومع فيروز يحدث العكس. القصيدة تبحث عنها لتصبح شعراً. صوتها يرسم فضاء للشاعر، ويفتح له مدى ليصبح شاعراً اوسع وألمع"... والأغنية الضاربة ساهمت في دفق المطربين على قصائده، لحّن مخول قاصوف العام 1978 أغنية "بدوية"، المعروفة بـ"ركوة عرب"، لكنها لم تسجل قبل العام 1980، تاريخ صدور أول مجموعة من أغنياته السياسية في شريط كاسيت بعنوان "إنتو كل الحكاية". ونذكر هنا أنّ أغنية "ركوة عرب"، أعاد مارسيل خليفة تلحينها وتوزيعها في ألبوم يحمل هذا العنوان العام 1995. قبل ذلك، غنى قصائد طلال حيدر كبار الفنانين اللبنانيين، ماجدة الرومي، وديع الصافي، أميمة الخليل، غادة غانم، سمير توفيق، جاهدة وهبة... وبدا واضحاً أن الكثير من الفنانين لم يضيفوا شيئاً الى قصائد طلال حيدر، ربما لأن أصواتهم لا تناسب...

في القصيدة الركيكة التي أطلقها طلال حيدر خلال الاحتفال بالعيد الوطني السعودي، أحيا الشاعر النقاش حول بؤس شِعر المديح وسيئاته وغاياته، وأدلى الكثير من النقاد بدلوهم السياسي في الموضوع، برروا المديح لهذا وذاك، رجموا طلال حيدر باعتبارنا في زمن الصراعات والانقسامات. انتقده بقوة الميالون إلى الخط الإيراني أو الذين لا يستسيغون سياسة السعودية. وهذه ليست المرة الأولى التي يتورط فيها طلال حيدر في دهليز المديح والسياسة. فعلى مدى سنوات، بقيت أقلام تذكره يوم أزاحت بلدة شتورا الستار عن نصب تذكاري لتخليد باسل الأسد، ووقف طلال حيدر يرثيه. يقول الناقد صبحي حديدي: "بدأ برثاء الراحل، ثمّ مرّ على مدينة القدس المحتلة ليجد النبي زعلاناً، مما دفع الشاعر إلى شتم الفلسطينيين لأنهم باعوا أذان العصر/ تا يشتروا بستان؛ وكان لا مفرّ من أن يمرّ على العراق فيجد بو لهب، ومرتو معو/ محمّل عا ضهرا حطب/ بردان، عم يوقد عرب؛ وبالطبع، لا بدّ من الشام وإنْ طال السفر: لاقيت الأسد سهران/ جاييعا ضهر البراق/ يخلّص الأذان/ وجايب معو هالشمس/ تتمشي على الجولان".

(*) فاز الشاعر طلال حيدر بجائزة شعر العامية من النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر في دورتها الأولى والبالغة قيمتها 50 ألف جنيه (نحو 3000 دولار). تحمل الجائزة اسم الشاعر المصري الراحل فؤاد حداد (1927-1985) وتقدَّم كل عامين.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024