"التانغو" بحسب بورخيس: تقلبات الروح الأرجنتينية

محمد حجيري

الخميس 2020/05/21
قد يُفاجأ القارئ بسعة اهتمام الأرجنتيني الموسوعي، خورخي لويس بورخيس، بمختلف الأجناس الأدبية والتصوير والموسيقى، وله مواقف معبّرة في لعبة كرة القدم وأفلام الكاوبوي والمصارعة والمخلوقات الوهمية، وفي جديده المستجد محاضرات عن "التانغو"(*)، وهو ليس آخر ما ألفه بورخيس، لكنه آخر ما صدر له، بعد رحيله، ثم أنه لم يكتبه، او الأحرى لم يُملِه، مثلما فعل بالكتب التي أصدرها بعدما أصبح ضريراً، بسهره على مراجعها وتنقيحها.

يقول المترجم المغربي، مزوار الادريسي: إذا كان بورخيس قد عرف بثقافته الموسوعية، بل الكونية المتمثلة في العربية والعبرية والإسكندنافية والشرقية القديمة وغيرها، فإن القارئ سيكتشف في هذا الكتاب أن بورخيس كان محلياً بامتياز، لأنه عالج فيه فن التانغو، الذي نشأ في بوينس آيرس، بصفته فنا كلياً، جامعاً متكاملاً، يتعانق فيه اللحن مع الغناء والرقص والكلمة. والتانغو، مثل الرومبا والسامبا والمارينيرا والكوريدو، وغيرها من فنون الموسيقى اللاتينية المنتشرة في أميركا الجنوبية، التي بحسب الباحثة كارمن برنان(**)، تخلط بين الإيقاع والرقص والكلمات. ويغلب الطابع الأفريقي على موسيقى اميركا الجنوبية، التي استوحت أيضاً من الفولكلور الاسباني ورقص الزوجين الأوروبي. والتانغو هو خليط من موسيقى الهابانيرا الكوبية، والميلونغا، والتانغو الأندلسي، والكاندومبي الأفريقية..

 وسيتعرف القارئ في كتاب "التانغو" على وجه آخر لبورخيس المولع جداً بهذا الفن، على عكس ما تستنتج احدى المترجمات بأن بورخيس "يكره التانغو"، الذي خرج في بداياته من المواخير، أو "البيوت سيئة السمعة". ومولد الموسيقى كان على ضفاف نهر دي لا بلاتا، عند الحدود بين الأرجنتين والأورغواي، وهي نجم الموسيقى اللاتينية اللامع. ظهر بورخيس في محاضراته ناقداً صارماً، لا يتردد في أن يبدي رأيه بشجاعة، وان يأخذ على كارلوس غاردل، أهم رموز هذا الفن محلياً وعالمياً، تشويهه للمحات التانغو وتحريفه لمساره.
يتحدث بورخيس عن التانغو، انطلاقاً من أنها المدخل الى العوالم في العاصمة الأرجنتينية، يتطرق الى الوسائل التي غزا بها التانغو العالم، خصوصاً العواصم الاوروبية، فأمسى علامة مرئية للأرجنتين برمتها، على غرار فن المصارعة الثيران بالنسبة الى اسبانيا، مثلاً، وهي أمور عرفت طريقها الى أدب بورخيس، وجعلته يحفل بها، وأكدت ما شددت عليه زوجته ماريا كودما، حين ذهبت الى أن بورخيس يؤسس مدينته أسطورياً، ويغنيها عبر القصائد، ويسردها من خلال نصوصه. وفي نهاية كتابه، يبرز وعيه بالمهمة التي أناط بها فنه، وخلاصتها "إن دراسة التانغو... دراسة لمختلف تقلبات الروح الأرجنتينية".

لقد صدر التانغو عن الميلونغا. وهذا يعني أن كل ذلك الحزن في التانغو هو ما قاد الناس الى التأييد بأن التانغو "تفكير حزين يرقص"، كما لو أن الموسيقى تخرج من الفكر وليس من الانفعالات. وخلافاً للموسيقى اللاتينية الفرحة، ينقل التانغو معالم هوية المكسيكيين الأساسية، مثل الإحباط والحنين والنقمة، ومعنى الوجود المأسوي. ومنذ 1880، سادت الموسيقى الهجينة العاصمة الأرجنتينية، بوينس آيرس. ويومها كانت المدينة في طور التوسّع والتمدد. كان التانغو في البداية رقصا شجاعاً وسعيداً، ثم شرع يتسم بالخمول الحزين، إلى درجة أنه يُقرأ. وفي مطلع القرن العشرين، رست قواعد التانغو وأزمنتها الإيقاعية الأربعة، واستقرت. وغزا التانغو الصالونات الأرستقراطية والشعبية في أوروبا. يقول بورخيس: "للتانغو ذلك الجذر المعيب الذي رأيناه. ثم إن أبناء الرغد والزعران، الذين كانوا أناساً يحملون السلاح، أو يستعملون اللكمات، لأنهم كانوا اوائل الملاكمين في البلد، فقد حملوه الى باريس. ولما استحسن ونقح في باريس، انتشر في بوينس آيرس، الشعب في البداية، رفض التانغو لأنه كان يعرف "أصله المعيب". وسرعان ما تخطى الرقص "العيب" وبلغ روسيا القيصرية، في عهد نقولا الثاني. وبلغ الشغف بموسيقى التانغو ذروته في أوروبا عشية الحرب الأولى...

لم تكن موسيقى التانغو الوحيدة التي استحوذت على اهتمام بورخيس، وإنما موسيقى الروك كذلك، وتحديداً أغنيات فرقة رولنغ ستونز وبينك فلويد. وبحسب المقربين منه، ولد بورخيس مع التانغو وتوفي مع الروك. وبشكلٍ أكثر تحديداً، مع "ذا وول" لفرقة بينك فلويد. وكانت أوبرا الروك العظيمة تلك، هي التي تصاحب حفلة عيد ميلاد بورخيس، لا سمفونيات برامز أو موتسارت.  

(*) صدر الكتاب عن منشورات الجمل في بيروت.
(**) مقالة نشرت في جريدة الحياة، صحافة العالم.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024