رسوم رياض سطوف: مستقبل ولادة باريسية.. وحياة قذافية -أسدية

روجيه عوطة

السبت 2015/04/04
لقصّة رياض سطوف المصوّرة، "عربي المستقبل"، قارئ محدد، لا ثاني أو ثالث له. وهذا التعيين يتصل بموضوع الكتاب وموقع كاتبه فيه (وهو الكتاب الفائز بجائزة أفضل ألبوم في مهرجان "أنغوليم" 2015 - ملتقى القصص المصورة الذي احتفى بمجلة "شارلي إيبدو" ورساميها الذين سقطوا في هجوم السابع من كانون الثاني الماضي). فالبيوغرافيا الشخصية التي رسمها سطوف، عن الفترة من 1978 إلى 1984، تنطوي على نظرةٍ إلى "واقع" غير مألوف بالنسبة إلى طفلٍ، كان قد ولد في باريس من أب سوري وأم فرنسية، قبل أن يذهبا به إلى ليبيا القذافية، ثم إلى سوريا الأسدية. فبعيونه، التي لم تفتح، من الفصل الأول حتى الفصل الرابع، سوى على ذهول، يشتد حيناً ويهون حيناً آخر، اكتشف الخارج من أسرته، وظل على حيرته اتجاهه. تالياً، جاء المُصوَّر، وهو رديف المُتَذكر هنا، من قصة الولادة والطفولة، وبعدهما، الرواح إلى البلدين العربيين، جاء كتسجيل للملابسات التصادفية، التي تبعث على الإرتباك والسخرية معاً.

وبِرَدّ عنصر الدهشة إلى الرسام في طفولته، وعنصر السخرية إلى الطفل في رسمه، يأخذ الإثنان منحىً شرحياً. إذ يشير سطوف في غضون كتابته المصوَّرة إلى بعض المعلومات العامة، على اعتبار دقيق، أي انعدام معرفة القارئ بها. فشرحه المعزول عن كلام الصور، والحاضر فوقها، كفيل، على حسبه، بجعل القصة أمضى في وقائعها التي يتلقفها بدون دراية، لأنه شخصيتها الطفلة، وببهتة الحائر المُسجِل لها. وهي، في الأغلب منها، تتعلق بمسلك الأب والأم أولاً، وباكتشاف المكانين ثانياً، وبالهوية المتأرجحة بين الفرنسية والعربية ثالثاً. ثمة في ذلك كله نوع من الحيرة، التي تولد سخرية حاملها، كطفل ورسام، مثلما تولد سخرية قارئها، وذلك، لتصويبها نحو اجتماع من المفترض أنه يجهله.

لكن، الإرتباك المُصوَر لا يخرج من عيون الطفل فحسب، بل من المَشاهد التي يراها، أكان في ليبيا، حيث باب الشقة التي تسكنها الأسرة، بلا مفتاح يقفله.. أو في سوريا، حيث صفة "اليهودي" تلاحقه، مسببةً قلقه. فالصفة المتروكة على مظهره، أو على نافره بالتحديد، أي شعره الطويل الأشقر، أطلقها ظاهر مجتمعي، محكوم بإستبدادين، وبقراءة أبوية، يتتبعها سطوف على لسان أبيه، الذي يتكلم في السياسة، أو بالأحرى عنها. ولما يحتك المظهر من ناحية الطفل، بالظاهر من ناحية "المجتمع العربي"، يكون الأول متلقياً للثاني، ومفسراً له في تخم إدراكه. واللغة، في هذا السياق، تؤدي دورها غير المكتمل، لأن سطوف يتحدث الفرنسية على الدوام، وهذا ما أبقى الظاهر قاسياً على بروزه فيه.

من كتاب "عربي المستقبل"بين المظهر والظاهر، بين التلقي والإلتباس، يقع التلافق، الذي يفصل الطفل عن "مستقبله العربي"، ويجمعهما في الوقت نفسه. فالحالان، الليبي والسوري، ينظران إلى سطوف بالتهكم عليه، والطفل هذا، لا حول ولا قوة له، سوى في رسمه لسيارة مرسيدس، أو في رسمه لجورج بومبيدو. ومن جانبه، ينظر إليهما كأنه يرتبك في اكتشاف الغريب، وغير المعلوم من قبل. إذ يسعى إلى الإقتراب من عائلته الواسعة، واللعب مع أقاربه. لكنهم، بفعله، يلفظونه كونه "إبن الأوروبية الوحيدة" في منطقته السورية. لذا، يفضل العودة إلى باريس بدلاً من البقاء في بلاد أبيه. وهذا ما يجري، قبل أن يقرر والده الرجوع إلى سوريا مرة أخرى. على أن سطوف يعقد مقارنة بين سوريا وليبيا، وبين صورتي الأسد والقذافي، مقارنة تكاد تنمحي أمام مظهره، الذي ينحاز إلى التهكم كي يتوازن مع إبعاد المتجمع له عبر أسرته الصغيرة.

في النتيجة، رسم سطوف "مستقبله العربي" بالإستغراب من حاضره، عبر الدهشة آنذاك وبالسخرية منه الآن، أي في كتابه، الذي لم يستكمل القصة، بل قطعها عند قرار الأب بالرجوع من جديد إلى بلاده الأولى. وعليه، بدا أن قارئ سطوف والمتفرج على حكايته لا بد له من التمييز بين سخرية الطفل وسخرية الكاتب. بحيث أن الأولى طريفة، والثانية تبدو كأنها وجهة نظر اتجاه الاجتماع، والتي، إن تغيرت نحو الظهور الديكتاتوري، تحلّ خفيفة عليه، بل ترسمه بلا قسوته، لتكتفي بالتلميح إلى مسألة الهوية المقسومة إلى جهتين، يدل عليهما كابوس الطفل: ثور من الشمال وآخر من اليمين، يركضان صوبه لينطحاه، لكنه لا يسخر منهما، بل يبكي، لتأتي يد أبيه وتنقذه، تماماً مثلما تفعل ابتسامة "القارئ المحسوب" على سخرية رياض سطوف في كتابه.

 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024