المعرض التحية لغايا فودوليان.. عبارات الموتى مُلهِمات الحياة

حسن الساحلي

الجمعة 2021/04/16
قبل ساعات قليلة من انفجار المرفأ، وضعت غايا فودوليان، المصممة الشابة ومديرة غاليري ليتيسيا (الحمرا)، صورة لها في منصة انستغرام، تظهرها مرتدية فستاناً أحمر وهي تركض وحيدة بين الأشجار. كتبت يومها تحت الصورة: "Everyone is the creator of one's own faith" وترجمتها الحرفية "كل منّا خالق معتقده"، لتكون الجملة بمثابة الأثر الأخير الذي ستتركه ابنة الثمانية وعشرين عاماً لأهلها وأصدقائها.

ليس واضحاً المعنى الذي قصدته غايا من الجملة، لكن، كما يحصل في حالات مشابهة، تأخذ الإشارات الأخيرة التي يتركها الموتى قبل رحيلهم، معاني مضاعفة ومتعددة عند الأحياء، تُرى غالباً بطريقة رؤيوية (لا بد أنها كانت تشعر بمصيرها)، وترفع الراحلين الى مقام أصحاب البصيرة والقداسة. ينطبق هذا على حالة غايا التي تؤكد والدتها أنها "لطالما تمتعت بحدس بالمستقبل"، وما نشرته كان استثنائياً فعلاً لأنها "من النادر ان تضع منشورات خاصة في صفحتها التي تتركها عادة للمنشورات الفنية".



تتردد أصداء جملة غايا، مجدداً اليوم، بعدما اختارتها والدتها عنواناً لأول معارض "ارت اند ديزاين" Art and Design في مبنى طبال (شارع سرسق)، وهو المشروع الذي حلمتْ به غايا فودوليان وعملت عليه لأشهر قبل رحيلها. كأن الأم، بتمديد أثر ابنتها، تبقيها أكبر وقت ممكن على قيد الحياة. ينعكس ذلك في مضمون المعرض، والأعمال التي أنتجها الفنانون المشاركون، و"تستجيب بطريقتها الخاصة" إلى جملة غايا الأخيرة، وهذا ما ينطبق أيضاً على التجهيز الفني الذي نفذه سامر ابو رجيلي، لتصميم يحمل توقيع غايا، وضعته قبل ست سنوات لكنها لم تنفذه في حينه، ليقوم أبو رجيلي بتصنيعه اليوم "بطريقة تتبع أكبر قدر من الأمانة للمخطوطات الأصلية".

يأتي مشروع "آرت آند ديزاين" اليوم استكمالاً لجهود الأم وابنتها، ضمن غاليري ليتيسيا الذي هدف إلى نشر وترويج أعمال الفنانين والمصممين اللبنانيين، كما كان الحال مع الغاليري. أما المختلف فيه، فهو إقامة معارض في فضاءات أوسع وأكثر تحرراً من نطاق مكعب الغاليري الأبيض، الذي كان يستضيف عرضاً كل شهر أو شهرين، على أن تعكس هذه الفضاءات كل مرة هوية العرض الذي تستضيفه.



يمكن وضع مشروع غايا الأخير في خانة الرؤيوية أيضاً، بما أنه يتعامل مع مشكلة الانهيار الاقتصادي والحجر الصحي في آن (تُقدَّم المعارض افتراضياً أيضاً)، وقد ولد كاستجابة للصعوبات التي يمر بها السوق الفني وتراجع المبيعات خلال العامين الماضيين، علماً أنه ليس النموذج الوحيد، ويبدو أن مشاريع مشابهة ستظهر خلال الأشهر المقبلة Pop up Galleries، تستجيب بطريقة مشابهة للمخاوف الاقتصادية وعدم الرغبة في الاستثمار طويل الأمد في السوق الفنية.

عمل غايا لم يكن ليكتمل لولا والدتها، آني فارتفاريان، التي تعتبر من اللاعبين المهمين في مشهد التصميم "المعاصر"، إذ تمكنت، على مدى العقد الماضي، من ضخ دماء جديدة في بيروت، من خلال مجموعة معارض وتكليفات لفنانين مكرسين وصاعدين، تقف في الوسط بين الأفكار المفاهيمية وقابلية الاستعمال المرتبطة بالمفروشات، من دون أن تبعد التجهيز عن عالم الفن التشكيلي. 



نُظّم المعرض في مبنى طبال التراثي الذي شُيّد بداية القرن الماضي. تعرّض المبنى لأضرار متوسطة خلال انفجار المرفأ، كما أكثرية المباني التراثية الموجودة في شارع سرسق. وبحسب النص المرفق بالمعرض، شيّد المبنى تاجر بيروتي من آل طبال، استفاد من توسيع مرفأ بيروت عند دخول الفرنسيين لبنان خلال العشرينات، لتعزيز تجارته، ما انعكس في الواقع توسيعاً لمنزل أهله، وارتقاء للأعلى من خلال بناء طابق جديد يمتلك مدخلاً خاصاً ودرجاً منفصلاً عن الطابق الأرضي.

يعكس تصميم الطابق الجديد ارتقاء التاجر طبقياً، إذ أضاف إليه القرميد (أزاله لاحقاً عند بناء طابقين آخرين)، وصمم ديكوره بشكل مسرف، ما ينطبق بشكل خاص على الصالة المركزية و"الليوان" ثلاثي القناطر، الذي ظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كترجمة لخروج البيروتيين من أسوار منازلهم المغلقة إلى الفضاءات المشتركة مع الجيران والأهالي. ويمكن رؤية هذا المكان (الأقرب إلى البلكون والتراس في عصرنا) من قبل المارة على الطريق، ويعتبر فضاء مشتركاً بين العام والخاص، تتكثف فيه مفاهيم المكانة والسلطة.

لذلك، ركز صاحب المنزل عليه، عبر زخرفة القناطر الفخمة والأعمدة والجدران، كما في البُركة الرخامية في الوسط، والرسوم الهندسية على السقف، فن الخط الذي كتبت به قصائد المديح على الجدران، والأرضية المرصوفة بالرخام المزخرف، علماً أن هذه العناصر الفخمة نجدها في أنحاء المنزل، لكن بشكل أقل كثافة مما هي في الليوان والصالة المركزية.
 



توزعت أعمال المعرض في أنحاء المبنى التاريخي، بلا تنسيق مسبق مع الفنانين، ما يبدو مستغرباً فعلاً، لأن فكرة إقامة معرض في مكان يمتلك هذه الخصوصية المعمارية والتاريخية، تستحق إنتاج أعمال غير مصنوعة لمكعب أبيض، بل تندمج مع المكان أو تخلق حواراً معه.

حاولت السينوغرافيا التي عمل عليها الثنائي "غيث وجاد" تعويض هذا الفارق، وقد نجحت نسبياً في عدد من الحالات، من بينها عمل حسين ناصرالدين الذي يمتلك توجهاً للتاريخ والعمارة، فقدّم تصميماً لعمود كلسي بعنوان The Red Castle, As It Occurred (2021) وضعه في مدخل المبنى، وكان قد أنتجه في سياق بحثه حول موقع العمارة والعنف في الشعر العربي. ويتناول التجهيز قصيدة للمتنبي، تصف تحوّل قلعة من اللون الأبيض للأحمر، بفعل دماء المقاتلين.

يلفت عمل ناصرالدين، النظر، إلى هذا العنصر المعماري الحاضر بشكل كبير في المنزل البرجوازي اللبناني، والذي نجده أيضاً في القلاع أو المعابد الرومانية، ما يحيلنا إلى ما هو أبعد من تثبيت السلطة والمكانة عند الطبقة البرجوازية الصاعدة مع بداية القرن العشرين، أي الطموحات السياسية التي ستصبح أكثر تبلوراً مع مرحلة الاستقلال.

من النماذج الأخرى التي تحقق اندماجاً مع فضاء المنزل، لوحات كارولين تابت الفوتوغرافية Inner Lives /Previous Lives التي عرضت في المطبح فوق المجلى، وتتناول فكرة التغير الدائم والطبيعة المؤقتة للأشياء. تتمتع الصور بحساسية عالية أو "نعومة" بصرية إن صح التعبير، لكن فكرتها تبقى أبعد ما يكون عن الثبات والقوة والمكانة السلطوية القابلة للتأبيد، والتي تترجمها خيارات التصميم والديكور في المنزل، وبشكل خاص الصالة المركزية والليوان. لذلك، كان المطبخ، المكان الخالي فعلياً من الزخرفة ومظاهر الترف، الخيار الأمثل لأعمال تابت (حتى لو اختير بشكل غير واعٍ لهذه التناقضات)، لأنه ينأى بنفسه عن أحلام البرجوازي السلطوية، ولأن قيمته كفضاء مكاني ترتبط بالذكريات التي حصلت فيه ورمزيته كمكان حميم مرتبط بالأمومة بشكل عام. 



يبقى تجهيز سيرين فتوح Truth Coming out of her Well، الأكثر إثارة للانتباه في المعرض: تمثال من الريزن يظهر الفنانة (طبق الأصل) وهي عارية، بينما تحمل مرآة صغيرة بيدها تعكس الضوء في أنحاء المكان. العنصر الوحيد المتحرك في التجهيز هو دماء الحيض التي تجري ببطء على الفخذ ثم تتجمع على الأرض.

التجهيز مستوحى من عمل بالإسم نفسه للفنانة الفرنسية فاني مارك (1858 -1937)، ويتسق مع تقليد قديم من المنحوتات التي تظهر الحقيقة العارية على أنها امرأة عارية. لذلك أضافت فتوح عنصر الدماء، كنوع من التحدي لهذا التقليد الذي فعلياً يقوم بنزع جنسانية المرأة وأنوثتها لتصبح طاهرة بالمفهوم الذكوري، بينما الدماء التي تعتبر تدنيساً وجلباً للعار من وجهة النظر هذه، تمثل نوعاً من إعادة الاعتبار للأنوثة المنزوعة أولاً، والحقيقة العارية التي شُوّهت على مدى قرون، ثانياً. 

لزيارة المعرض افتراضياً: www.artdesignlebanon.com

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024