داوود عبد السيد: لا أستطيع الكلام في السياسة

أحمد شوقي علي

الإثنين 2019/09/30
ربما لم يشهد ستوديو "ناصيبيان" في القاهرة، ليلة مزدهرة كتلك التي شهدها في استضافة المخرج داوود عبد السيد، منذ أفول نجمه في الثمانينات. فالاستوديو الذي أسسه رئيس الجالية الأرمينية في مصر العام 1937، وشهد إنتاج 144 فيلمًا من عيون السينما المصرية، مثل "باب الحديد" و"شفيقة ومتولي" و"أم العروسة" وغيرهم، قبل أن يتحول مؤخرًا إلى ساحة للعروض المسرحية، كان على موعد مع استعادة تاريخه القديم، وقد امتلأ عن آخره، في حضرة داوود عبد السيد.

غيَّر ناصيبيان نشاطه، منذ بضع سنوات، إثر محاولة جمعية النهضة العلمية والثقافية "جيزويت القاهرة" تفعيله، بتحويله إلى ساحة تستقبل عروض الفرق المسرحية الشابة. لكن عبد السيد (73 عامًا) الذي لم يتغير أداؤه منذ فيلمه الروائي الأول "الصعاليك"، يمارس فلسفته في تلقائية من دون تكلف أو ادعاء للحكمة. كأنه يمثل وفق ذلك ووفق انتمائه السينمائي الأصيل، جزءًا من الامتداد التاريخي للمكان، وإن كانت تلك الصورة لا تتناسب مع ثبات آخر "محبط" يؤرقه، حين يقول: "ثورة يناير أنقذتني من إحباط عشته لفترة طويلة قبلها، إحباط سبّبه ذلك السؤال المؤرق "متى ستتغير الأمور"، وقامت الثورة، لكن الأمور كما هي لم تتغير".

عبد السيد، الذي جاء ليتحدث عن تجربته السينمائية، في الأمسية التي أدارها الزميل هشام أصلان، ضمن النشاط الشهري لصالون "الجيزويت"، لم يكن لينفصل عن الأوضاع السياسية ذات التأثير المباشر على أي نتاج إبداعي، حيث إن السينما المصرية تعاني –وفق رأيه- من أزمتين رئيستين، أزمة إنتاج، وأزمة إنتاج تتعلق بالهيمنة التي يفرضها النظام السياسي. والأخيرة يقول عنها مازحًا "مقدرش أتكلم فيها"، لكن محاوره أصلان يفترض أزمة ثالثة تتعلق بانخفاض المستوى الفني للنصوص السينمائية المطروحة، تؤثر في القيمة الفنية للمنتج السينمائي، يمكن معالجتها حال العودة للاعتماد على تحويل الأعمال الأدبية إلى أفلام، وهو ما يعترض عليه صاحب "الكيت كات" المأخوذة عن رواية "مالك الحزين" لإبراهيم أصلان، ضاربًا المثل بأعمال نجيب محفوظ المحولة إلى السينما: "أدب نجيب محفوظ لا خلاف عليه سواء حاز نوبل أم لم يحزها، وهو ويوسف إدريس بالنسبة الي أهم كاتبين في مصر، ولكن أعماله التي نُقلت إلى السينما كانت سيئة جدًا مقارنة بأدبه المكتوب، إذن تحويل الأعمال الروائية إلى السينما ليس وسيلة للنهوض بالأخيرة، الأدب مهم للسينما بالطبع لكنه ليس رافدها الوحيد".

يؤمن عبد السيد أن الرؤية السينمائية تختلف عن الأدبية، لاختلاف أدوات كليهما. يرى أن دوره كمخرج ليس الحفاظ على الشكل الأدبي للرواية، وإنما هضمه لصالح التصور السينمائي. فالاقتباس من الأدب للسينما يشبه: "عملية افتراس، ليست فيها أية أخلاق، أنت لا تحافظ على العمل الأدبي، السينما أدواتها التعبيرية مختلفة، عندما يفترس أسد غزالة فإن الفائدة التي، يستخلصها من التهام لحمها، يوزع على جسده في هيئة دهون وبروتينيات إلخ... لكنه لا يستبدل ساق الغزالة بساقه. لذلك فإنني، إذا قرأت رواية وأعجبتني، لا أستطيع تحويلها إلى السينما، أشعر إن فعلت ذلك، وكأنني أخون إعجابي بها".

حوّل عبد السيد، بالإضافة إلى "مالك الحزين"، قصة لخيري شلبي بعنوان "سارق الفرح" إلى فيلم، يحمل الاسم نفسه... وكتب السيناريو لثمانية من أفلامه التسعة التي أخرجها، ولم يتعاون مع كاتب سيناريو سوى في فيلم "أرض الأحلام" الذي كتبه هاني فوزي... على أن المخرج الذي يصف أفلامه غير المنجزة بمثابة "ديون" عليه تسديدها. يملك ثمانية سيناريوهات أخرى لم ينفذها، ليصبح مجمل ما كتبه للسينما 17 فيلمًا، نفذ منها تسعة فقط، ذلك لأنه يقضي "فترات طويلة بين تنفيذ الفيلم والذي يليه، بسبب آلية الإنتاج. وصلت تلك الفترات التي أنتظر فيها أنتظر المنتج تسع سنوات أحيانًا، وفي أحيان أخرى أربع أو خمس سنوات، وذلك شيء يتعلق بظروف السينما".

لكن النجاح الجماهيري الذي أحدثه فيلما "الكيت كات" و"مواطن ومخبر وحرامي"، يبدو أنهما لم يشفعا لتحسين علاقة المخرج بالإنتاج، لأن ذلك الأخير تغير مفهومه كثيرًا عن السينما في السنين الأخيرة: "السينما المصرية تجارية طوال عمرها، وهذه ميزة، لأنها تعني أن السينما في مصر صناعة، والصناعة تعني التجارة، ولكن الأوضاع في السابق كانت تمنح الأفلام الطليعية مساحة للتواجد ولو على الهامش.. اليوم هناك أفلام يصنعها الشباب، صحيح أنها ليست كلها جيدة، وبحاجة إلى كثير من التطوير، لكن تلك الأفلام بالنسبة لي هي الأفلام الحية"، مضيفًا: "الأفلام التجارية نفسها تغيرت اليوم. ثمة رؤوس أموال ضخمة تضخ في السينما، وهناك أفلام قد تتكلف من 50 إلى 100 مليون جنيه، هذه الأفلام، عند عرضها، يجب أن تعوض تكلفتها وتجلب للمنتج أرباحًا... وهذا ليس عيبًا في حد ذاته، ولكن المشكلة تكمن، في أن تلك الرغبة في تعويض المصاريف وجني الأرباح، أوصلت سعر تذكرة السينما إلى مائة جنيه. وهذا يعني، أن أسرة تبتغي الترويح عن نفسها، فإن نزهتها إلى السينما، يمكن أن تكلفها في حدود الألف جنيه. لذا يشاهد السينما اليوم الفئة القادرة فقط. كل رواد السينما التقليدية، من الطبقات الفقيرة، لم يعودوا قادرين على ارتياد السينما. والشخص القادر على دفع هكذا مبلغ، لمشاهدة فيلم ليس عنده هموم، همومه طبقية ربما لكن ليس لديه هموم اجتماعية واقتصادية. لو لدي تلك الإمكانية المادية "يبقى معنديش هموم"، وبالتالي فإن الأفلام التي، تنتج بهذا القدر الضخم من المال، والموجهة لتلك الشريحة، يجب أن تكون أفلاماً خالية من الهموم، وللتسلية".

لا تتعارض الرغبة في المكسب مع تقديم محتوى فني جيد في الوقت نفسه. وهو الأمر الذي يراه عبد السيد متحققًا في السينما والدراما الغربية، وغير متحقق في السينما المصرية، ذلك لتدخل عامل أخر، غير رغبة المنتجين، في تحقيق مكسب يدفعهم لاعتبار التسلية وحدها، غرضًا للسينما التي يقدمونها... يقول عبد السيد: "عندما أشاهد المسلسلات الدرامية التجارية في "Netflix"، أجدها جذابة للغاية، وأحيانا كثيرًا ما ألمس في بعضها مستوى عالياً من الأفكار والشاعرية، فضلاً عن أنها لا تعاني أزمة مع الرقابة، هنا أنت تعاني من المحرمات المفروضة على السينما، ما يمنع من التعبير عن أي شيء تقريبًا، قائمة طويلة، تبدأ بـ"لا تضايق عسكري في الشارع" إلى ما شاء الله، لذلك ينتابني شعور بالنقص تجاه حركة السينما في العالم، نحن أقل بكثير مما يدور حولنا، كيف يمكن أن نصنع فيلمًا تجاريا، وفي الوقت نفسه يمتلك قيمة فنية؟".

وربما يبدو الوضع أكثر قتامة في نظر صاحب "قدرات غير عادية"، لأن الرقابة الحالية تعرقل السينما المصرية، أكثر من تلك القائمة في دول، ربّما أكثر شمولية من مصر: "بالرغم من أن هناك رقابة شديدة على السينما في إيران، لكن المخرجين، لديهم قدرة على صناعة أفلام جيدة. أنت هنا، في مصر، لا تستطيع أن تصنع أفلامًا جيدة، في ظل الرقابة الحالية. إذن الرقابة في مصر أسوأ من نظيرتها في إيران".​
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024