أن تأكل قلبي

هدى بركات

الإثنين 2016/10/31
كان أكل لحوم الحيوانات لبعضها البعض، أي ضمن الصنف نفسه، معروفا قبل أن يكتشف كولومبوس أن هنود الكاريبي البشر يأكلون من لحم البشر. وفي أصل الكلمة الإسبانيّة تحوير ل "أراواك كاريبا" وكان يعني الشجاع / القوي. وما ميّز سلوك البشر ذاك عن الحيوانات أنهم لا يأكلون بسبب الجوع. ففي شعائرهم نوع من "تكريم" الميت. فالميت من الأجداد الأعزاء وذوي القيمة لن يأكله دود الأرض، ولتذكّره والحفاظ على إرثه يأكل أبناؤه وأحفاده ومحبّوه القلب أو الرأس، أو ما كانوا يرونه مجسّدا لميّزاته وخصاله... حتى أكل القتيل من الأعداء الأشدّاء كان لاكتساب شجاعته وقوّته، أي الإعتراف بوجودهما عند العدو ذاك، في ما يشبه تكريمه أيضا... ويبدو أنّ الصينيات – في زمن مضى ليس بالبعيد، بحسب البروفيسور دانييل بنيشك – كنّ يأكلن المشيمة كأمّهات بعض الحيوان، وأن بعضهنّ كن يأكلن ما يُجهضن كي لا تذهب الخسارة سدى...

ثمّ اقترنت في الأديان – الدين المسيحي بخاصّة - رموز الحب والأكل في منح جسد يسوع ليأكله الناس المؤمنون برهانا على حبّه اللامنتهي للبشر. وصوّرته الأيقوناتُ واللوحات الكنسيّة مقدّما قلبه على يده، أو كاشفا عنه في صدره مخترقا بالسّهام..."خذوا كلوا هذا هو جسدي المعطى لأجلكم. اصنعوا هذا لذكري" و"من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيه". منتهى التوحّد بين العاشق والمعشوق.

الأكل- أكل المحبوب - كآخر صنائع الحب إذن. كمثل دفنه في القلب والإحتفاظ بروحه وبطلله، كما استلهمت الفنون، وكما ظهر في الأدب في تنويعات كثيرة...

رواية "آكلات لحوم البشر"*، التي صدرت مؤخرا عن دار سوي الفرنسيّة لا تذهب في "رومنطيقيّة" الرمز المسيحي، بل يستردّ الحبيب المحبوب إلى حيث يجب أن يكون، حين يبتعد عن القلب ويُفسد صلة التوحّد والإندماج ويستعصي عليها. فالفرد إذ نحبّه لا يحقّ له الإبتعاد والإستقلال بذاته عن المحبّ. وأكله في هذه الرواية يدور في حسّ بالوحدة وتجاهل الحبيب، فتغلب مشاعر الإنتقام ونوايا الشر، لكن النتيجة تبقى واحدة...

الحكاية تأتي على شكل مراسلات بين أمّ جوفريه  (رجيس جوفريه هو إسم الروائي، مكتوب بشكل مختلف) وعشيقته السابقة التي تركته. فالأمّ جان والعشيقة السابقة نويمي عالقتان في عالم جوفريه، الخمسيني المحبوب، المبتعد عن كبد أمّه، والمذعن القابل بقرارنويميه بالإنفصال، هي المفجوعة لعدم سعيه إلى استسماحها أو استردادها باكيا مستعطفا. رسائل جوفريه القليلة برهان على خطيئته، وحين تصل رسائل المرأتين إلى اليأس من استرداده تتجّه هذه الرسائل شيئا فشيئا إلى ما يشبه الهذيان، فتقرّران قتل جوفريه وأكله. ويبدو إذذاك مشروع قتله وبرنامج طهوه هو المسار الوحيد. فسوف تقتلانه، ثمّ تقطّعان أعضاءه، فالأجزاء الطريّة سيتم شيّها ببطء على الحطب لتحتفظ بالنكهة، والأخرى المتبقيّة ستُسلق مع الكثير من المنكّهات والبهارات...

الروائي لا يقول إن الحبّ القوي هو "أكل" الآخر. لكنّ الرواية تدفع بهذا الحب، الذي لا يميّزه شيء كثير عن حكايات الحب العاديّة، إلى القتل مع وعود بالتلذّذ بهذا ال"طعام". وليس في حياة المرأتين ما يشير إلى ماض إجرامي أو سلوك هستيري.. ولو أن الرسائل الأخيرة المتبادلة تتفلّت قليلا من منطق سرد هادىء، أو محكم اللغة. فالرجل الخمسيني يبتعد منطقيا عن حضن أمّه. والعشيق المرفوض والمتروك يقبل في عمر جوفريه بالإنفصال عن إمرأة أحبّها... ولأنّ السرد يبدأ حول رجل محبوب ثمّ قليلا قليلا تنسى المرأتان "موضوعهما"  إذ تصبح الرسائل مشغولة وهاجسة بالحب والفراق والعلاقة بالرجال، كتبتها امرأتان من جيلين مختلفين يتفقان في المطلق.

ليس الشرّ ما يدفع بالحبيبتين إلى القتل. أمّ ستسعى إلى استرداد إبنها الوحيد إلى بطنها، وامرأة ستحبّه حتى شرب ذكريات جسده المبتعد كلّها...

   Ed. Le Seuil-Les cannibales*
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024