شمس السودان

أسعد قطّان

الثلاثاء 2019/08/20
مرّة أخرى يفاجئ السودان العالم.
الشعب الذي قاسى عقوداً، طغيان العسكريتاريا وممالقة الإسلام السياسيّ، يطالب بدولة مدنيّة.
لكنّ هذا الشعب يدرك أيضاً استحالة القفز فوق التاريخ. هو يقبل اليوم بنوع من التعايش بين العسكر وقوى التغيير طمعاً في الوصول غداً إلى الدولة المدنيّة. "الأمثل يمكن أن يصبح عدوّ الجيّد"... هذا المثل الإنكليزيّ العبقريّ ربّما يلخّص ما يجري في السودان اليوم: الأفضل من حرق المراحل والانغماس مجدّداً في منطق الفوضى والدم، هو القبول بمرحلة انتقاليّة لا تكون إقصائيّة، شرط أن تبقي نصب عينيها الهدف الذي ناضل السودانيّون من أجله في الأشهر الأخيرة: الدولة المدنيّة، هذه التي تقف على الحياد من الانتماءات جميعها وتضمن المواطنة والمساواة الحقيقيّة بين البشر بعيداً من العنف الحتميّ الذي يرشح من منطق الأكثريّة والأقليّة والذكوريّة والذميّة والطائفيّة وخرافة الجماعة المتفوّقة.

حدّثني صاحبي عن جدّته التي أصيبت بالخرَف، وكيف كانت تطرح عليه السؤال نفسه عشرات المرّات في اليوم. وقال إنّ الذاكرة تصنع هويّة الإنسان لأنّها تسمح بتراكم الخبرات. ثمّ خلص إلى أنّ المجتمعات التي تعجز عن مراكمة خبراتها والتعلّم منها تفقد هويّتها وتدخل في نفق الخرَف الجماعيّ.

إنّ ما يجري في السودان اليوم يُظهر أنّ هناك بشراً في هذا الشرق لم يسقطوا بعد في غواية الخرف الجماعيّ، وأنّ "الربيع" ما زال يحفر في الواقع العربيّ رغم أنّنا أعلنّا موته السريريّ وكتبنا ورقة نعوته بحبر اليأس. وما يجري في السودان اليوم ينبئ بأنّ الانتقال من الاستبداد إلى الحرّيّة، ومن منطق اللادولة إلى منطق الدولة، ليس خطّاً تصاعديّاً، بل هو مسار شاقّ وطويل يتقدّم تارةً ويتعثّر طوراً، وهو يجعلنا في أيّ حال نستعيد ما كتبه الشاعر اليونانيّ إيليتس ذات يوم أنّ "الشمس تحتاج إلى كثير من العمل كي تشرق من جديد".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024