الرغبة وإقتصادها: في نقد ثنائية الذات والنظام

يارا نحلة

الخميس 2020/03/05
في العام 1854، دحض كارل ماركس فكرة وجود "جوهر" إنساني متأصل في كل منا، معتبراً أن الطبيعة الإنسانية، والتي تتفرع عنها الذاتية الفردية، "ليست سوى حصيلة للعلاقات الإجتماعية". وعليه فإن واحدة من التهم التي توجه إلى الشيوعية هي أنها جاهلة للطبيعة الإنسانية وساحقة للفردية. فالأساس الماركسي الذي بنيت عليه، يقول أصحاب هذه الحجة، قد أسرف في تنظيره للشروط المادية والإقتصادية للعيش، وأغفل حيزه النفسي بالكامل. تفضي هذه المحاججة إلى أن الشيوعية مشروع خيالي لا يفقه في علم النفس البشرية ومتاهاتها.

الحقيقة أن إشكالية الجوهر البشري تشكل هي الأخرى متاهة فلسفية تتنازع في دهاليزها مدارس الفكر والدين. وإن كانت الجدلية المادية تدحض في هذا الميدان، إلا أن فهمها لمسألة الجوهر الإنساني ليس محصوراً في حدودها المادية، وإن كان متجذراً فيها، لكنه يتعدى المادّة للبحث في جانبها لنفسي، مستمداً شرعيته من مدرسة التحليل النفسي التي أسسها فرويد. والحال ان عالمي التحليل النفسي والنظرية الماركسية، يتقاطعان بقدر تشابك خيوط رغبتنا ومخيالنا الفردي والجمعي بحبال البنى الإقتصادية القائمة.

الهياكل في مواجهة الفرد 
يتتبع الكاتب السلوفيني سامو تومسيك، هذه الخيوط، في كتابه الجديد "عمل المتعة" The Labour of Enjoyment. يضع تومسيك كلاً من النظريتين تحت مجهر الأخرى، ليخرج بنقدٍ للإقتصاد الليبيدي (الرغبوي) الذي لا يقل إستغلاليةً عن الإقتصاد العام. "يخالط ماركس وفرويد أحدهما الآخر"، يقول تومسيك، وهو باحث وأستاذ محاضر في مجال الفلسفة، خلال ندوة إستضافتها مكتبة "برزخ" في بيروت قبل أيام. وبحسب تومسيك، يتبلور هذا التماثل على يدي المحلل الفرنسي جاك لاكان، ويتخذ صيغته النهائي بولادة مفهوم جديد هو "فائض المتعة".

باتباع منهجية بنيوية، يترجم لاكان أدوات الإنتاج التي تحدّث عنها ماركس، ويضعها في صلب النظرية التحليلية بوصفها الهيكل العالمي الذي يحوي ويحكم صلاتنا الإجتماعية بل والذاتية. يطور لاكان مبدأ اللذة الفرويدي متحدثاً عن متعة تتجاوزه، هي متعة لا تكف عن التكدّس، من دون إشباع. وفي الضفة الأخرى من اللذة، يقع الألم، كنتيجة حتمية لمعادلة فائض القيمة، بمعنيَيه الماركسي والتحليلي.

ثمة تلاقٍ آخر بين المدرستين يبرز في مفهوم الإستلاب الذي بحثت فيه كلتاهما. وتنسجم معادلات لاكان الرياضية-النفسية مع تفسير المدرسة الماركسية الذي إعتمد على الأرقام، وليس "الأفراد" subjects بوصفهم مجرد تجسيد للتجريدات الاقتصادية، أي أدوات الإنتاج، أولاً وقبل كل شيء. وهنا يشير تومسيك إلى أن حكم ستالين جرَّم الإغتراب، فيما تقوم الرأسمالية اليوم باستثماره، أما الشيوعية فهي بمثابة "الإدارة الجماعية" له. إن هذه الإدارة الجماعية هي ما يطرحه العلاج التحليلي كحل للإستلاب، وفق تومسيك، وذلك على النقيض من الممارسات النفسية السائدة حالياً، التي تستثمر الإستلاب، تتغذى به وتغذيه، إنطلاقاً من إتجاهات نيو-ليبرالية تعمد إلى "إستثمار الجرح". لكن باعتباره أحد نتائج الشروط الرأسمالية، التي خلقت العارض و"المرض"، يحيلنا هذا المنطق إلى القول بأن التحليل النفسي هو "المرض الذي يحاول قهره". يقر تومسيك بهذه المعضلة ويطرح حلاً لها عبر الخروج من إزدواجية "الإستلاب أو وإزالة الإستلاب" إلى معادلة "الإستثمار الربحي للإستلاب في مقابل العمل مع وعلى الإستلاب".

التحليل النفسي: أداة سياسية لمقاومة النظام الذي في داخلنا
هنا يفيد تومسيك بأن فرويد يجسد أهمية بالغة بالنسبة للماركسية لأنه أحدث نقلة نوعية من "المقاومة ضد النظام" إلى "مقاومة النظام"، أي النظام المتجذر فينا، القاطن في لاوعينا والمستلب لرغبتنا، ذلك الذي يبدو وكأنه بنية خارجة عن كياننا ومجالنا الذاتي، إلا أنه المحدد الأول لرغبتنا. يتجه هذا النظام، الذي يحتفي بالذاتية والفردية، إلى إنتاج ذاتية مشوهة، مبهمة، وفاسدة. هي في الحقيقة ذاتية لا تنبع من ذواتنا، بل من الخارج. لكن هل من مفرّ من هذه الحلقة المفرغة؟ يجيب تومسيك بأن الحلّ يقع على النقيض من الفرار، أي في مجابهة هذه الذاتية الفاسدة والمفسَدة التي تجسّد إحدى سمات البروليتاريا، وفي مواجهة "إنعدام الجدوى" الذي تصنعه أدوات الإنتاج الإستغلالية. وفي هذه المواجهة تكمن القيمة السياسية للتحليل النفسي.

بالطبع ليس للتحليل النفسي إمكانات التجييش أو التنظيم السياسيين، وهو آخر ما يطمح إليه. بيد أنه أساسي في الكشف عن البنى السلطوية المخفية التي تحكم وجودنا المادي والميتافيزيقي. فمعيل الأسرة ليس سيد المنزل كما يعتقد، تماماً كالـ"أنا"، أي الذات، التي أكد علم النفس التحليلي أنها ليست سيدة الوعي. فقد أصبح السيد بمثابة كيان مجرّد، يصعب تحديده، وبالتالي لمسه، على عكس اللورد الإقطاعي.

لم تعد المواجهة بين قوة العمل ورأس المال واضحة ومباشرة، بل أضحت مواجهة بين قوة العمل من جهة، والبنى والشبكات النقدية المجرّدة من جهة أخرى، بين الدائن والمَدين، مع تحول الدائن إلى كيان مجرّد من أي وجود مادي أو ذاتية سيكولوجية.

الإنسان المعاصر.. مكبل بدَينه
إن الرمزية التي تؤطر عمليات الآلة الرأسمالية تستدعي قراءة تحليلية تكشف عن الباطن- في الحالة اللاكانية البحث عن "الواقع الرمزي"- وتذهب إلى ما وراء العارض للكشف عن منطقه الإقتصادي. إذ لا يكفي أن يعالج العارض فحسب، كما تفعل المدرسة النفسية السلوكية، ذلك أن العقد القائمة بين وجودنا الذاتي والمنظومة الإقتصادية الكبرى، تتكون على مستوى رمزي غير ظاهري يشوه كل حقيقة شخصية نظن أننا نعرفها، بما في ذلك العارض/المرض نفسه.

أما مرض الإنسان المعاصر فيكمن في دَينه، وفق تومسيك، الذي يقول إن "الإنسان المثقل بالدَّين هو إنسان عاجز". يماثل تومسيك بين نظام الإئتمان والدَّين العام، وبين مفهوم "تأجيل المتعة" الذي تحدث عنه لاكان، بوصفهما نظامين قائمين على الإستثمار والربح المستقبلي. عليه، يجسد الفرد المَدين هذه العلاقة غير المتكافئة بين رأس المال وقوة العمل، وهو نموذج علائقي يفرز عجزاً مطلقاً يتجسد في "دوامة إستنساخ للإقتصاد الليبيدي الإستغلالي" الذي لا سبيل إلى كسره من دون كسر هذه الذات أولأً، وما تجسّده من إنعكاس مرآوي للنظام.

في المحصلة، استلب النظام العالمي ذواتنا وذاتيتنا، حتى أضحت هذه الذات خارجنا، وقام النظام داخلنا. لذلك فإن أي مشروع لمقارعة النظام، سواء على صعيد السياسي جماعي، أو على صعيد النفسي، شخصي، من أجل إستعادة شيء من ذاتيتنا المسحوقة، ولا بدّ له أن يشن أولى غزواته على هذه الذات، والقانون المسير لها بغية تجريدها وتطهيرها من النظام القابع في داخلها.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024