سلطة النكران

روجيه عوطة

الخميس 2020/01/09
منذ مدة، صارت متاحة الملاحظة أن النكران، كعبارة، دخل على اللسان السياسي العام، وصار من قاموسه الذائع. إذ يكثر الركون إليه من أجل الإشارة إلى أمر محدد، وهو آلية تتبعها السلطة، سدّةً وجسماً، في اتجاه موضوع يلح عليها، لكنها لا تقر بوجوده. هذا الموضوع قد يكون واجباً، لا بد أن تقدم عليه، إلا أنها لا تفعل، أو قد يكون كارثةً، غير أنها لا تواجهها. بالتالي، تنسحب من أمامهما إلى الإدعاء المتماسك-وليس الاعتقاد أو الاقتناع- بأنه لا مكان لهما في الواقع، أو إلى كونهما غير متحققين في الواقع إياه: لا يمتان للحقيقة بصلة. على أن إنسحابها هذا، وبالإشارة إليه، يبدو أنه ليس من باب الحيلة، أو المخادعة، أي ليس من تلقاء تخطيطي، بل إنه من باب اللواذ، والذعر، وقبلهما، بالإنطلاق من ردّ فعل. بعبارة أخرى، تتجه هذه السلطة إلى النكران من دون أن تختاره، وهذا بعد ارتطامها بموضوع ما، لا يمكنها الإقرار بحقيقته، إنما الفرار منه.

على هذا الأساس، يشي وصف آلية من آليات السلطة بالنكران بتبدلها، بحيث أنها ليست، وفي هذا السياق، قادرة على المتحقق في الواقع، على الحقيقة الواقعية، بل إن هذه الحقيقة الواقعية هي القادرة عليها. بالتالي، السلطة، وحين تنكر، تريد أن تتجنب، لا كون الموضوع الذي يلح عليها موجوداً، بل كونه لا سلطة لها عليه بما هو حقيقة واقعية، وباختصار أنها ليست، وفي هذه الجهة، سلطة. فلكي تكون كذلك، لا مناص من اتسامها بتحكمها في تلك الحقيقة الواقعية، في ضطبها لها، في الالتفاف عليها، أو في مَعيَرتها على العموم. بهذا، من الممكن القول إن النكران، الذي تعتمده السلطة، هو دليل على موتها، كما أنه، وفي الوقت نفسه، دليل على كون هذا الموت، هو، في حد ذاته، ملجأها لكي تتواصل. فهي ما عادت تُمعِير، مثلما كانت تفعل في السابق، لكي تدوم، بل تنسحب من المعيرة، تنسحب من أمام موضوعه، معلنةً أن حقيقته الواقعية ليست موجودة، وهذا، لكي تبقي على وجودها.

فالسلطة، على هذا النحو، تدافع عن نفسها عبر التراجع عن دورها، وإطلاقها سراح الحقيقة الواقعية منه إلى درجة مطلقة، إلى درجة الإقلاع عن الإقرار بها، عن الإقرار بكونها تفوقها. فالمعادلة تستقر هكذا: الحقيقة الواقعية أقوى من السلطة. والسلطة، ولكي "تتحافظ" (تحافظ على ذاتها بذاتها)، تنسحب من دورها كسلطة، وتموت أمام هذه الحقيقة الواقعية، تاركةً إياها تسرح من دون أن تُمعيرها، من دون أي تدخل فيها. في النتيجة، النكران يعينها على هذا "التحافظ"، وبالفعل نفسه، يعينها على ما يشبه امتحان تلك الحقيقة الواقعية، ومفاده ألا تطالب بها، بمعنى ألا تفتش عليها، ألا تفرزها، ألا تنتجها لكي، أولاً، تعترف بها، وثانياً، أن توقف سراحها، أو تضع حداً له. كما لو أن "الحرية"، وفي حال صح استخدام هذا المفهوم هنا، هي قريبة من كونها فخاً تنصبه السلطة بنكرانها للحقيقة الواقعية، أو عبئاً تحملها إياه بانسحابها أمامها بعد الارتطام بها، لكي تدفعها إلى البحث عنها، "استيقظي، وخذيه عني".

لكن هذه السلطة لا تتراجع عن نكرانها بمطالبتها بذلك، وهذا، لأنها، وحين لا تلبي مطلب الحقيقية الواقعية، لا تعترف بها، ولا تقاوم "حريتها"، بل إنها، تبديها، وببساطة، كَوَهم. وهنا، تظهر كأنها تعود عن الموت أمامها، أو كأنها نجحت في قلب الضعف إزائها إلى قوة. إلا أن إبداء الحقيقة الواقعية كَوَهم ليس انتصاراً للسلطة، إنما هو حفرها لقبرها، بحيث أن نكرانها لها هو مجرد انتقالها إلى نفيها جذرياً، إلى الجزم في أنه لا وجود لها. وكلما واظبت على نفيها على هذا المنوال، تهيئ لها رجوعها، ليس كأقوى منها، وليس كَوَهم قاطع، إنما كعدمها.

فالحقيقة الواقعية التي تتعرض لنكران السلطة، تتحول إلى بذرة العدم التي تنزرع في قلبها، وتقتلها، وفي أثناء ذلك، تؤكد أن هذه السلطة لم تستطع التمكن منها البتة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024