شبح الماسونية: من قضية فلسطين إلى مستنقع الفساد

أحمد ناجي

الأربعاء 2017/08/30
(*) بعد مقال أول بعنوان "شبح الماسونية: هل بنوا بغداد والمسجد النبوي؟"، وثان بعنوان "قِرد الاستعمار أم رواد الحداثة العربية؟" هنا مقال ثالث في سلسلة من أربعة أجزاء، تُنشر تباعاً في "المدن"، كل أربعاء...


تحت ظل حكم الخديوي محمد سعيد ( 1854- 1963)، شهدت مصر تغيرات جذرية في سياسة حكم الأسرة العلوية. بدأت بإغلاق المدارس والكليات العليا التى كانت فخر الدولة المصرية في عهد محمد علي. وبرر سعيد باشا إغلاق المدارس بجملته المشهورة "أمّة جاهلة أسلس قيادة من أمة متعلمة". هذا المواقف رافقتها مجموعة من القرارات الداخلية، كالسماح للفلاحين بتملك الأراضي للمرة الأولى، وخفض الضرائب، وفتح البلاد أمام الفرنسيين، بل والركوع أمامهم، بداية من منح ديلسبيس حق حفر قناة السويس، وصولاً إلى إرسال كتائب مصرية لمشاركة فرنسا في حرب المكسيك... وأخيراً السماح للماسونيين بالعمل بحرية في طول البلاد وعرضها.


تكاثرت المحافل الماسونية خلال فترة سعيد، وتعددت تبعيتها فقد كان هناك محافل تابعة لإيطاليا ومحافل تابعة لمحافل فرنسا وانكلترا، إلى جانب محاولات لم تكلل أبداً بالنجاح لإنشاء ما يصفه جرجي زيدان في كتابه "تاريخ الماسونية" بمحفل وطني يضم الوطنيين من مصريين وشوام. واستمر الازدهار الكبير للماسونية في عهد إسماعيل باشا الذي حكم بعد سعيد.

في العام 1864، وبدعوة من مندوب محفل ممفيس –الذي أسسه قبطى مهاجر كما أوضحنا في مقال سابق- اجتمع عدد من رموز الماسونية المصرية وقرروا تأسيس محفل "الشرق الأعظم الوطني" كمحفل ماسوني مصري خالص على الطريقة الاسكتلندية، وقرروا اختيار الأمير حليم باشا، ابن ساكن الجنان محمد علي، كما يصفه جرجي زيدان، أستاذاً أعظم لمحفل الشرق. لكن على ما يبدو، فإسماعيل باشا الذي كان قد تسلم الحكم ويسعى إلى ترسيخ سلطانه من خلال محاصرة أمراء العائلة الملكية الذين قد يهددون عرشه، لم يكن راضياً عن نشاط عمه حليم باشا، فغادر الأمير حليم باشا مصر لأسباب سياسية، لينهار المحفل قبل أن يبدأ عمله.

ونتيجة لتعدد المحافل العاملة في مصر، واختلاف الجهات التابعة لها، شهدت سنوات اسماعيل انتشاراً في المحافل الماسونية، لكن بعضها انخرط في نشاطات لم تُعجب النظام الحاكم، ومثّل هذا التعدد خطراً على الحركة ككل. حتى  ظهر الماركيز "دي بوغارد"، الذي أمضى سنوات في توحيد كل المحافل الماسونية المصرية ضمن محفلين رئيسيين: المجلس الأعلى الفلسفي، 

والمجلس العالي الممفيسي. وأخيراً في 15 أيلول/سبتمبر1872، أسس الشرق الأعظم المصري كعشيرة ماسونية وطنية مصرية خالصة، لا تتبع أي محفل أجنبي ولديها درجاتها الخاصة، وهي 33 درجة طبقاً للتقليد الاسكتلندي.

تعانقت الماسونية المصرية مع الدولة الحديثة والعائلة المالكة المصرية. ويسرد جرجي زيدان تفاصيل مشهد الاتفاق بين الماسونية المصرية والخديوي ممثلاً للدولة المصرية "مثل الأخ الأستاذ الأعظم" في 29 نيسان/أبريل1873 بين يدي الخديوي إسماعيل باشا الأفخم، وقدم واجب العبودية لجلالته وأعرب عما للعشيرة الماسونية من المقاصد الحسنة، وبين أنها في احتياج كلي لحماية أمير البلاد، فتعاطف سموه إذ ذاك وصرح بالحماية، مشترطاً عليها ألا تتعاطى أمراً مخالفاً لصالح الأمة والدولة والوطن، وألا تتدخل في السياسة إلا إذا دُعيت أو دُعي بعض أعضائها من أمير البلاد أو من حكومته للمساعدة في ما يعود إلى الصالح العام، فعلى المدعو إذ ذاك أن يلبي الدعوة بما في وسعه حالاً...

فتعهد الأستاذ الأعظم بالشرف، أن الماسونية لا تسير إلا كما اشترط سموه، وعلى ذلك تم التعاضد بين الحكومة المدنية والدولة الماسونية، وأصبحت القوتان يداً واحدة في ترقية شأن الأمة ورفع منار الفضيلة"، وطوال العقود التالية أصبحت الماسونية جزءاً من الحراك والصراعات السياسية في مصر والمنطقة، أحياناً يكون الانتماء لها تهمة وأحياناً بمثابة الشرف. وطاولت اتهامات الانضمام للماسونية كل الشخصيات الشهيرة التى صاغت مفهوم الدولة الوطنية الحديثة ضد الاستعمار الأوروبي، من محمود سامي البارودي، لجمال الدين الأفغاني، حتى محمد عبده وعبد الله النديم. لكننا لا 

نستطيع أبداً الجزم بصحة أي من هذه الاتهامات. لأنه بحل التنظيمات الماسونية في العام 1964، اختفى أرشيف الحركات الماسونية في دهاليز وزارة الداخلية المصرية، ولم يبق إلا بعض الوثائق والمجلات التي كانوا يصدرونها والتي سنحاول الاعتماد عليها لرسم صورة لتلك العشيرة.

بُنيت الاتهامات بالماسونية على الكثير من الشبهات. فجمال الدين الأفغاني الذي اقترب فترة من الماسونية ثم انقلب عليها وكتب كثيراً ضدها، يُتهم حتى الآن بالماسونية. سعد زغلول كذلك يتهم بالماسونية لأنه عندما توفي أقامت المحافل الماسونية الحداد عليه، في حين أن مصر كلها، بكل اتجاهاتها، حزنت على وفاة سعد. كانت للمحافل الماسونية مطابعها ومجلاتها وجرائدها التى تتوجه بها للجمهور مثل "مجلة التاج المصري"، أو "المجلة الماسونية"، وكانت صفحات تلك المجلات مفتوحة للكتّاب من التيارات كافة، حتى لو لم يكونوا ماسونيين، لذلك تطاول اتهامات الماسونية أشخاصاً مثل عباس العقاد، بالرغم من أن كل علاقته بها أنه كان ينشر مقالات وقصائد في مجلات ماسونية. ويجب أيضاً أن نفرق بين الميل أو "محبة" الحركة الماسوينة، وكانت حركة علانية قوية يتجاوز عدد أعضائها عشرات الآلاف في طول البلاد وعرضها، وبين الانخراط في الماسونية وتناول أسرارها وتلقي درجاتها.

وكانت بعض المواقف السياسية للحركة الماسونية المصرية تُفسّر بأنها نتيجة لروابط ماسونية. فمثلاً، في العام 1936 نشرت مجلة "التاج المصري" الماسونية دفاعاً عن أمير الكويت أحمد الجابر الصباح، بعدما اتهمه كتّاب عراقيون بالتعاون مع الصهاينة وبيع الأسماك لهم لسدّ جوعهم، وهى الاتهامات التى وصفتها "التاج المصري" بالباطلة، واعتبرتها مضرة بالقضية العربية التى تبناها المحفل الماسوني الوطني المصري ورفض محاولات توطين اليهود في فلسطين. هذا الموقف السياسي من قبل محفل مصري، كان السبب في اتهام أمير الكويت بأنه ماسوني، وهو الأمير الذي حاول أكثر من مرة انشاء مجلس تشريعي وتأسيس الديموقراطية في الكويت، قبل أن تنتهي محاولته بمنح نفسه لقب أمير الكويت المعظم، وبحصاره أعضاء المجلس التشريعي الثاني وقتلهم وسجنهم بناءً على أوامر البريطانيين.

كانت للمحفل الماسوني الوطنى المصري انحيازاته السياسية مع الاستقلال الوطني، وضد سياسة الانتداب الانكليزي على فلسطين. ومنذ نهاية الثلاثينات، سعى المحفل الوطني المصري إلى فتح فروع عربية له في لبنان وسوريا وفلسطين ودول عربية أخرى، وفي مطبوعاتهم كثُرت الإشارات إلى العروبة والقضية العربية.

هناك الكثير من الشخصيات السياسية والرموز الأدبية والفنية التى كانت فخورة بانتمائها للماسونية، مثل الأمير محمد علي، وحسين باشا صبري الذي كان الأستاذ الأعظم للمحفل الوطني. وضمن باب التهاني، في واحدة من المنشورات المصرية، نجد سلسلة من التهاني لأعضاء المحافل على وظائفهم الجديدة، ومنهم مأمور قسم شرطة الأزبكية ووكيل وزارة الحربية، وجنرالات في الجيش، وموظفون في المحاكم المصرية والمحاكم المختلطة، ومدير المكتب الفني في البرلمان، بل وأعضاء في البرلمان ذاته.

إذن فالتحالف بين "الدولة الماسونية والحكومة المدنية"، لم يكن مجرد حديث مرسل في عهد إسماعيل، بل تغلغلت الحركة في مفاصل الدولة. ويمدّنا عدد من الوثائق الماسونية، التي تحتوي على كشوف بأسماء الأعضاء، بتصوّر عن القطاعات التي ينتشر فيها الماسونيون. فلدينا عدد كبير من الأطباء والباشوات وموظفي الدولة، بل وبعض شيوخ الأزهر كفضيلة الشيخ أحمد محمد شاكر  كما نلاحظ في كشف بأسماء المرشحين للمحفل الوطني الأكبر يعود إلى العام 1930.

تنص مبادئ الأخوة الماسونية على مساعدتهم لبعضهم البعض، وبالتالي يمكن أن نتخيل شبكات المصالح التي كانت تنشأ داخل العشيرة الماسونية، وكيف سيندفع المتسلقون والأصوليون إلي الماسونية، وكيف يمكن أن ينتج ذلك العديد من قضايا الفساد والانحراف، وهو الأمر الذي سبب للماسونية في أوروبا الكثير من المشاكل وورطها في قضايا فساد كبرى انتهت بحل التنظيمات الماسونية في بعض الدول.

لا تمدنا المصادر التاريخية المعروفة بأي قضايا فساد تورط فيها الماسونيون المصريون. لكن وثيقة تعود للعام 1948 تذكر حادثة جديرة بالتأمل، إذ تقدم أربعة أعضاء باستقالتهم من المحفل الأكبر الوطني المصري، إلى الأستاذ الأعظم للمحفل حسين باشا صبري، محتفظين لأنفسهم بمبادئ البنّائين الأحرار العالمية لخدمة الإنسانية. أما سبب الاستقالة فيفصلونه قائلين: "كلّت أيدينا من اصلاح الحال وإهداء السبيل للقائمين بأمر المحفل الأكبر والذين يستغلون اسم سعادتكم أسوأ إستغلال، مخالفين في ذلك القانون العام والنظام الماسوني في أبسط مظاهره، وليقينهم التام من حبنا وولائنا لحضرة صاحب الجلالة الملك المفدى فاروق العظيم، ولكل من يمتّ لجلالته بصلة، مما أوقفنا مكتوفي الأيدي إجلالاً لشخصكم الكريم، لكن بعدما استفحل خطرهم حتى أصبح السكوت عليه لا يحتمل، ولما فقدنا الأمل في إصلاح ذات الاعوجاج، تقدمنا بهذا لسعادتكم معلنين انفصالنا عن المحفل الأكبر".

نحن إذاً أمام واقعة فساد، وتكتلات تستفيد من قربها من شخصيات مؤثرة في الحكم، بل ومن جلالة الملك المفدى، وذلك لمصلحتها الخاصة في مخالفة للمبادئ الماسونية. والأمر تعدى كونه واقعة، إلى أن هؤلاء الأشخاص سيطروا على العشيرة وبسطوا نفوذهم عليها، وسيبتلع الفساد مصر كلها بعد العام 1948، لا سيما بعد انكشاف قضية الأسلحة الفاسدة التي قادت إلى "النكبة"، وستغرق الماسونية المصرية مثل غيرها في ذلك المستنقع.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024