شريف الشافعي
وبلغ به التهكم مداه إزاء ملابسات هذه الواقعة الدامية، فنشر رسمًا كاريكاتيريًّا لكلب دامع العينين، وبجانبه صاحبه الكلب يقول: "سألتُه ما الذي يبكيك؟ قال: سمعتهم يقولون إن الذي خان الوطن كلب، وأنا لا أخون"، وكتب سعادة معلّقًا: "آه كم كانت الأرض جميلة، لو أن كل الناس مثلكم!".
لقد دفعته هذه الفاجعة الضخمة، غير المسبوقة، إلى نبرة أكثر حدة في الانتقاد: "آه يا مسؤولي لبنان وزعماءه، لو كنتم جميعكم في مرفأ بيروت أثناء الانفجار، كم كان فرحنا عظيمًا!"، واستدعى الشاعر الجريح المصدوم ذكرياته مع الرفيق غسان كنفاني (1936-1972)، وكأنما يلمح إلى استمرار دور عملاء إسرائيل كوكلاء للقتل والدمار: "كنتُ أزورك في مكتبك في صحيفة الهدف في كورنيش المزرعة في بيروت، وكنتُ أرى فلسطين في عينيك. الوطن هو ألا يحدث كل هذا، لكنّ كل هذا قد حدث يا غسان".
هكذا هي الكلمة من فم وديع سعادة، شعرية أو غير شعرية، عليها أن تبقى طلقة مدوية، وصرخة مزلزلة، فمن الواجب على المبدع، برأيه، أن يكون "الناقد الأول للسلطة". ومع سمته العامة الهادئة، كرافض للاستعراض والثرثرة، وزاهد في الإغراءات والصخب والضجيج، ومتهرب من الاحتفالات الكرنفالية الفارغة (اكتفى في مسيرته الطويلة بجائزة "الأركانة" العالمية للشعر)، فإنه في هموم الوطن وجراحاته يبدو متّقد الثورية، ثوريّ الاتقاد: "آخ! آخ! كيف كنتَ وكيف صرتَ يا لبنان!".
وتكاد تتطابق "وصايا" وديع سعادة مع منشوراته السياسية والدينية، ومما أورده نصًّا في هذه الوصايا، التي يكررها ويؤكد عليها بين حين وآخر، مع معرفته المسبقة أن عائلته لن تنفّذ الثلاث الأولى منها: "ألّا يُصلَّى على جثماني. أن تقيموا عرسًا لا مأتمًا. ألّا يشارك في دفني رجال دين ولا رجال سياسة. إنْ أردتم أن تتذكّروني فتذكّروا ضحكتي ولا تتذكّروا حزني. احذروا التجّار والرأسماليين سارقي لقمة الخبز من أفواه الفقراء واحترموا حتى المومسات، لأن هؤلاء هم الذين دفعوا المومسات للاتجار بأجسادهنّ من أجل لقمة الخبز".
كثيرة هي آراء سعادة وتدويناته وتصريحاته، المتسقة مع هذه الوصايا، ولعل أكثرها انفعالًا وسخطًا هي تلك التي أطلقها أيضًا بعد انفجار بيروت 2020، حيث صبّ غضبه المشتعل على كل الذين يراهم خصومًا للشعب وللوطن، وخصهم بأقوال لاذعة: "يا رجُل السياسة، لا تقلْ لي كم عدد أتباعك، بل كم عدد الذين وفّرتَ لهم احتياجاتهم؟! ويا رجُل الدين، لا تقلْ لي كم جامعًا أو كنيسة بنيت، بل قلْ لي كم جائعًا أطعمتَ؟!".
أما الزعماء السياسيون، المتناحرون على طول الخط، فقد نَزَعَ عنهم الشرف تمامًا، مع تطاير ورقة التوت الأخيرة: "أنا المهاجر إلى أستراليا منذ 32 عامًا، أفكّر الآن في حذائي العتيق، الذي رميته في الحقل قبل أن أهاجر، وأراه أكثر شرفًا منكم يا زعماء لبنان"، بحد تدوينة له في التاسع من أغسطس/آب الماضي.
وأعاد وديع سعادة، العجوز الذي "لم تبقَ لديه أمنيات غير أن يرى البشر يحبون بعضهم بعضًا قبل أن يرحل"، نشر مقالة كان قد كتبها العام 1981 عن لبنان، لأنه يراها "لا تزال تصلح إلى اليوم"، وفي هذه المقالة التي تدور حول فقدان كلبة والإعلان عن مكافأة لمن يجدها، كتب بحروف من المرارة والسواد: "خيرًا فعل صاحب الإعلان في إعطاء مكافأة لمن يدلّ على كلبته. فالمفقود في هذا الوطن، أو منه، لا يُردّ إلا نادرًا جدًّا، ولكن بمكافأة يجب أن تكون دائمًا أغلى من المفقود، أيًّا كان. والأكيد هو أن أشياء كثيرة غالية قد فُقدت، وتُفقد يوميًّا ولا تعود، ولا إعلان ولا احتجاج!".
في الجانب الآخر، الشعريّ المحض، تمكّن سعادة من إنجاز المعادلة الصعبة، فالطائر المَهجَريّ ليس غائبًا، لكنّه بمقدوره دائمًا أن يحمل الوطن في قلبه خارج الأمكنة المرسومة، وأن يكون شاعرًا ماثلًا بقوة في الضمير الجمعي؛ اللبناني والعربي والإنساني عمومًا، عبر دواوينه اللافتة: "ليس للمساء إخوة"، "المياه المياه"، "بسبب غيمة على الأرجح"، "غبار"، "من أخذ النظرة التي تركتُها أمام الباب؟"، "قُل للعابر أن يعود.. نسيَ هنا ظله"، وغيرها.
لقد أدرك الشاعر منذ وقت بعيد أن المنفى أمر نسبي، لا يُعوّل عليه في قياس التحقق والتلاشي، والحضور والغياب، ومن ثم غدا واحدًا من أكثر الشعراء انخراطًا في المشهد العربي المعاصر، واقترابًا من الذائقة العربية الجديدة، المواكبة لتحولات قصيدة النثر وتطوراتها في السنوات الأخيرة، لاسيما في نصوصه البرقية المكثفة "نتسلّق ضحكاتنا/ لأنّ صراخنا شاهقٌ جدًّا".
وعلى المستويين الفني، والفلسفي، مضى سعادة إلى تطوير سبل التعاطي مع ثنائية المنفى والوطن، ففي كتابه "غبار" يتساءل عما إذا كان الإنسان كائنًا عاقلًا؟ ويرى أن تلك الصفة ناقصة، ما عادت دقيقة، لأن الإنسان كائن منفيّ، وبات صعبًا تحديد موطن للناس، فالمنفى اتسع، والأرض كلها صارت منفى: "ما عاد هناك وطن. هذه تسمية أضحت من التراث. من الذاكرة الآفلة. البشر يقيمون في منفى لا في وطن. كان في الماضي منفى جماعيّ ومنفى فرديّ. صار الكلُّ كلِّيي النفي: منفيين في الخارج ومنفيين في الداخل ومنفيين في الجماعة ومنفيين في الذات".
ويذهب إلى أنه لم تبق في الخارج أية إشارة إلى أن هذا المكان، أو ذاك، هو مكاننا، ولا في الداخل إشارة إلى أن الذات لا تزال تخصُّنا، فقد صار صعبًا، بل مستحيلًا، على المرء تحديد ذاته، فكيف تحديد مكانه؟ وإذا الذات نفسها منفيَّة، هل يمكن التحدُّث عن مكان؟!
قصيدة وديع سعادة هي شعرية الإيمان بالتغيير الوهمي إلى درجة تصديقه، فالشعر ليس بإمكانه أن يعدّل شيئًا في العالم، لكن وهم التغيير بالشعر، مثله مثل وهم إعادة صياغة الوطن، ومن دونه فإن استكمال الحياة في هذا الواقع المرير، أمر مستحيل. فما أقسى الحياة المبنية على الدائرية والتكرار: "الذي غرق في الماء، صار سحابة/ ثم نزل قطرةً قطرة/ والسابحون في البحر، يسبحون فيه". وفي هذه المحنة الأبدية، يستضيف الشاعر المرتحل في البعيد الموتَ مرحّبًا به، لأنه لا يريد أن يخشاه، ولأنه الطريق إلى الراحلين: "لا أرى رفاقًا سوى الآفلين. لا رفاق إلا الموتى".
وديع سعادة، برسائله الإسقاطية والمباشرة على السواء، هو صاحب نصّ طويل ممتد، عن الوجع والعزلة والحرب والهجرة والتهجير والموت، وعن القبح الفادح الفاضح في ألاعيب السياسة والاتجار بالدين، ما جعله يرى الأزمنة كلها متشابهة في الرداءة، بل إن الدهر كله هو يوم لا يستحق سوى إهالة التراب عليه: "في يدي يومٌ قتيل، وأريد أن أدفنه بهدوء".