"أخف من الهواء".. كيف تكتب رواية ببطل واحد

وجدي الكومي

الأحد 2019/09/01
النوفيلا، أو الرواية القصيرة، هو الفن المحبب لمهجور من الروائيين والكُتاب لصالح الروايات البدينة كما وصفها الناقد المغربي سعيد يقطين، الذي صك المصطلح، فصار شائعا كدلالة على الغش التجاري في كتابة روايات ضخمة كثيرة الصفحات، تصل إلى أن تكون كتلاً ورقية، لكنها تفتقر إلى المتعة والحرفية والجمال، ولعل من أبرز الروايات القصيرة الممتعة كانت "أورا" لكارلوس فوينتس و"الحمامة" لباتريك زوسكيند.

في روايته "أخفُ من الهواء"(175 صفحة) الحائزة جائزة كلارين الأرجنتينية، يبني فيدريكو جانمير معمار عمله على بطل واحد هو سيدة عجوز تبلغ من العمر 93 عاما، وتدور مساحة الرواية، في حمام بيتها، الذي حبست فيه مراهقاً طائشاً حاول سرقتها ذات ليلة على عتبة منزلها، فغررت به وقادته إلى الحمام بزعم أنها تُخبئ ثروتها ومجوهراتها في خزانة الأدوية به، ثم أغلقت عليه الباب من الخارج وظلت تحكي له الحكايات.

الرواية القصيرة تلك التي كتبها جانمير، وترجمها محمد الفولي عن الإسبانية، تستلهم جانباً أساسياً من جوانب ألف ليلة وليلة، فالحكي هنا تتولاه امرأة، تقبع خارج الحمام، لبطل مجهول تماما عن القارئ هو المراهق اللص المحبوس في حمامها، يبدو تأثير الليالي العربية ونمط تسلسلها المستمر في حكي الحكايات، وكذلك في إسناد مهمة الحكي لعجوز وحيدة، واضحا وكبيرا. من الصفحة الأولى للرواية، نعرف أن فيدريكو جانمير، واحد من طابور طويل من الكُتاب اللاتينيين الذين ذاكروا الليالي، ودرسوها بقوة، وصار تأثيرها في أعمالهم غير خاف، فالصفحة الأولى من الرواية تبدأ بعنوان فرعي يشير إلى تاريخ غير محدد.. الخميس 29 نوفمبر، دون تحديد أي أية سنة، ثم نسمع صوتا واحدا يتولى دفة الحكي، يأمر شخصا آخر لا نسمعه مطلقا، بأن يقعد على غطاء المرحاض. يستمر الصوت الذي يحكي في توجيه الأوامر إلى شخص آخر لا نسمعه، ولا نقرأ منه بنت شفة، فيقول جانمير على لسان هذا الصوت: إذا سمحت لي، فسأقص عليك ما أرغب في حكايته بخصوص أمي، وتنتهي المسألة ببساطة.

إذن فالصفحة الأولى تهيء الأجواء للقارئ بأنه مقبل على الاستماع لصوت واحد سيتولى دفة الحكي، ويتولى توجيه المسائل، تماما كشهريار الذي لم يتدخل مطلقا في سير حكي حكايات شهرزاد، لم نسمع طيلة الليالي صوت شهريار يطلب شيئا من شهرزاد، أو يتدخل فيبدي آراءه، أو يقاطعها مطالبا بأية طلبات، وتماما هنا، في رواية جانمير، تبدأ الصفحة الأولى بتاريخ غير محدد، وبصوت العجوز وهي تحكي عن أمها "ديليتا" ونعرف جميعا أن هناك شخصاً يستمع للحكايات حبيس في الحمام، مثلما نعرف جميعا أن شهريار ظل يستمع لشهرزاد، من دون أن نهتم بالسؤال: ماذا كان يفعل خلال الاستماع. فأذهاننا منصرفة إلى حكايات شهرزاد، وليس إلى ما يفعله شهريار.

هذا المعمار الذي يبنيه جانمير بصبر وتؤدة، يعتريه بعض المخاطرات، نظرا لأن القارئ من الوارد أن يمل من صوت واحد لبطل واحد يتولى عمل كل شيء، حكي الحكاية، ترديد رغبات الطرف الآخر أحيانا، إخبارنا بما يود أن يقوله، وبما يرغب أن يعبر به عن نفسه، حتى ذكر ما يرتكبه من أفعال مارقة كالطرق بصخب على باب الحمام، للرغبة في الإفلات من محبسه غير المعتاد، لهذا يهيء جانمير قارئه لما سيلقاه في الصفحات التالية بقوله على لسان العجوز:
- آه حسنا. لا رغبة لديك، لا لهذا ولا لذاك.. اسمعني.. ربما لا رغبة لديك أنت، لكني على أي حال سأقص عليك ما أرغب في قصه.. فلتبق هادئا معي وسأحكي لك، وبعدها ستخبرني إن أثارت المسألة اهتمامك أو أنها لم تحرك بتاتا شيئا داخلك، كان اسم أمي ديليا، لكنها تدعى ديليتا.

هذا الحوار الذي يؤسسه جانمير في روايته من طرف واحد، يضمنه كل شيء، ليس فقط الحكايات، فالرواية عبارة عن حوار طويل، يتضمن الحكايات الجانبية، كأن يخبرنا على لسانها بخروجها مرات لشراء شرائح اللحم من أجله، وأن يخبرنا بردود أفعاله على حكايتها، وتدخلاته التي لا نسمعها بطبيعة الحال، وكلما قلب القارئ صفحة من الرواية، باحثا عن حلول لذلك المحبوس في الحمام، نجد أن جانمير قد أعد عدته لكل شيء، وحبك قصته جيدا، فنعرف من العجوز أن: لا تتوهم، حتى إن صرخت أو ضربت الباب بأقصى ما لديك، فلن يسمعك أحد سواي. أؤكد لك، هذا هو الطابق الأخير من المبنى، ولا أحد يعيش في الأسفل منذ سنوات طويلة.

وتبدأ الصورة تتضح لنا بسرعة، ونعرف ماذا حدث، وقاد إلى هذا الوضع. وكيف سقط اللص المراهق في فخ العجوز وانتهى به المقام إلى الحمام، إذ تقول: إن لم تكن استوعبت المسألة بعد – وهذه الجملة تبدو كأنها موجهة للقارئ أيضا – فدعني أخبرك أنك أنت من أوقفني في الشارع في اللحظة نفسها التي كنت أخرج فيها المفتاح من محفظتي السوداء لفتح باب المبنى، وقلت لي، معتمدا على سكين أو مُدية أو شيء لا أعرفه- شيء حاد كان يُخزني في ظهري، أن أصمت وألا استدير، وأن أفتح الباب كأن شيئا لم يكن، وأن أرافقك حتى شقتي ببطء وصمت تام.

وتضيف العجوز موجهة حديثها إلى اللص المحبوس أو إلى القارئ: إذا كنت قد اضطررت إلى خداعك وإخبارك بأنني أحتفظ بكل أموالي في خزانة الحمام الصغير الملتصق بالمطبخ، الحمام الذي تقبع بداخله لتصرخ كإنسان الغاب، فهذا بكل بساطة لأنني رفضت التخلي لك عما لدي من مال.

وهكذا تطرح عليه الحكايات، حكاية أمها ديليتا، التي كانت تحب الطيران، فتعرفت على طيار، كان بوسعه أن يعلمها الطيران، لكنه رغب فيها، وحاول مراودتها عن نفسها، فذهبت معه إلى المطار على وعد زائف منه أن يدربها على الطيران، ولكنه كان يضمر شيئا آخر، وهي أيضا كانت تضمر له شيئا آخر، إذ استلت مسدسا، وهددته بالقتل إن لم يعرفها كيف تقلع بالطائرة، ثم أطلقت عليه رصاصتين فعلا، وأقلعت بالطائرة، ثم سقطت بها الطائرة وصُرعت.


ولكن هذه ليست هي الحكاية الوحيدة التي تسير عليها الرواية، إذ كما هو في الليالي، حتى حكاية السندباد البحري وسفراته تتفرع داخل الليالي الألف، فلا ننتهي من حكاية ديليتا، حتى ندخل إلى حكايات الرجال الذين غرروا بالعجوز الحكاءة التي تحبس المراهق، فتحكي له عن نفسها، عن الرجل الذي اغتصبها عنوة وهي طفلة صغيرة، وظل يغتصبها مرارا وتكرارا، ثم تحكي له عن الرجل الذي خدعها بقصة حب زائفة، ثم سرق مجوهراتها واختفى، وفي المنتصف نعرف منها ماذا يجري بينها وبين اللص المحبوس، فالعلاقة تتطور بينهما من الرغبة في عقابه وإثارته بدفعه للنوم على الأرض بعد أن يفترش الفوط والمناشف، والتهام الاسفنج ومعجون الأسنان، والتبول كما يشاء في المرحاض، هكذا نستمتع بقصة محبوكة، فإذا حبس أحدهم لصا في غرفة النوم، أو في غرفة مكتب. ستبرز مشكلة تغوطه، وتلويثه لنفسه وللمكان المحبوس فيه، لكن جانمير راعى كل الإشكاليات التي، قد تمثل ثغرات في معمار تلك النوفيلا القصيرة، فمن أسفل عقب الباب تبدأ العجوز بتمرير الطعام وقطع البسكوت إلى اللص الذي نعرف أن اسمه "سانتياغو" ونعرف أن ثمة تعاطفا يبدأ ينمو بينهما، إذ تقول العجوز: أعجبتني كثيرا مسألة أن أذهب للنوم وأنا أعرف أن أحدا سينتظرني عند استيقاظي، هو إحساس جميل، لكن بمجرد أن فتحت عيني أدركت أن كلا منا يعرف الآخر منذ فترة ليست بالقصيرة.


وقد يعترض البعض على التأويل الذي طرحته بأن ذلك الشكل الذي جعله جانمير في روايته لا يتأثر بالليالي العربية، إنما يتأثر بكرسي الاعتراف في الكنائس، إذ يقبع شخص ما في الظل يحكي الحكايات معترفا بأخطائه لقس غير ظاهر ولا يتدخل في الحكي ويكتفي بالاستماع، وهو ما يلفت إليه جانمير فعلا في إحدى الصفحات حينما يقول على لسان العجوز: لا أعرف ما الذي يحدث لي معك يا سانتي: أقسم لك كنت أظن دوما أنه ليس من المستحب أن أقص على شخص آخر شيئا يهمني أنا وحدي، إذا أمعنت النظر فإن عدم رؤيتي لوجهك وأنا أحكي يجعل المسألة تبدو كاعتراف في الكنيسة.

ولكن شهرزاد كانت تحكي لشهريار لدفعه بعيدا عن البطش بها، وإلهائه عن فكرة الاستيقاظ في الصباح التالي وذبحها كأخريات ذبحهن وانتهى منهن، وكذلك العجوز هنا تحكي لسانتي تخوفا منه، لأنه بمجرد أن يغادر الحمام، قد يقتلها، وهي الفكرة التي تظل مطروحة دائما بينهما، وتظل تعارض فكرة إطلاقه، ونسمع منها توسله لها ووعوده بألا يمسها بسوء، وهي الوعود التي لا تصدقها أبدا، وهكذا تصبح العلاقة بين العجوز وسانتياغو، مثل العلاقة بين شهرزاد وشهريار، واحدة تحكي لكف أذى الرجل.

لن يغادر سانتياغو هذا الحمام مطلقا، وهكذا يظل القارئ متتبعا بشغف لمعرفة ما سيحدث في النهاية، فالمعضلة التي صنعها جانمير، لا يبدو مهتما بحلها والاهتمام بترتيب مخرج للص المراهق في نهايتها، لا يبدو جانمير مهتما إلا بنواة الرواية نفسها، ألا وهي فكرة أن كلا منا بحاجة لمن يسمعه، إذ تقول العجوز: كنت أخبرك قبل شرح مسألة الاعتراف، أنه معك يحدث لي شيء لم يسبق أن مررت به، أنني أتجرأ وأقص عليك خصوصيات لم أحكها لأحد من قبل، هذا أمر لا يصدق، أنا بالكاد أعرفك يا سانتي، وبت تعرف كل شيء عني، لا يمكنني التوقف. أشعر أنني بت مسموعة ولي اعتبار.

*صدرت الترجمة عن دار مسعى للنشر والتوزيع

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024