ياسر عبد اللطيف: السوداني السوري.. الهامشي المتمرد

ياسر أبو شقرة

الخميس 2020/10/01
رحل، أمس الأربعاء، الممثل السوداني، أو السوداني السوري حسب التوصيف الذي يحلو له، ياسر عبد اللطيف، ليترك أصدقاءه وجمهوره تحت صدمة رحيله المبكر والمفاجئ، لكنه رحيل يشبه غالبية المحطات الفنية للرجل في دمشق، محطات كانت في معظمها خارج إطار التوقعات.

لم تُعرف عن الممثل الراحل أدوار كبيرة أداها للسينما والتلفزيون، ولا حتى أي أدوار مساعدة، إنما كان يعطى الأدوار الأكثر هامشية في الدراما السورية لا لقلة براعته التمثيلية، وإنما بسبب لون بشرته. وحسب عادة المخرجين في اختيار الممثلين، فدائماً للممثل البدين أدوار لا يجب أن يحيد عنها، وكذلك القصير، والطويل، والأسود، أي كل من يختلف بشكله أو لونه عن السائد بين الممثلين الوسيمين حسب تعريف الوسامة في السوق السورية.

ولأن سوريا بلد منغلق، ولا إمكانية لوجود الكثير من الأجانب فيه، حسبما أراد له نظامه السياسي، فقد كان وما زال وجود أشخاص من ذوي البشرة السوداء في المجتمع أمر نادر، وتراهم في أماكن معينة. وهم بالتالي ليسوا من نسيج المجتمع السوري، ومن الصعب إيجاد تمثيلات لهم في الدراما السورية، ولم يخطر في بال أحد من المخرجين أن يتجاهل لون ياسر عبد اللطيف ويعطيه دوراً ليس مرهوناً بلون بشرته، ومع ذلك هو استطاع أن يصل إلى قلوب جميع السوريين من خلال وجوده ضيفاً في لوحة من لوحات مسلسل "حكايا" حملت اسم "شكازولو" ومن خلال ثلاثة مشاهد له في هذه اللوحة أدى فيها دور لاعب كرة قدم نيجيري، عرفه السوريون جميعاً. بعدها تعددت الأدوار الهامشية لياسر عبد اللطيف، وصولاً إلى دوره في مسلسل الزير سالم العام 2000، حين جسد شخصية "العبد ياقوت"، عبد البيت التغلبي، الشخصية التي سيحفظها كل من شاهد المسلسل، إذ أداها ياسر عبد اللطيف ببراعة فائقة. وهكذا استطاع أن ينتقل من تواجده في أدوار هامشية جداً، تقدمه دائماً على أنه الممثل الأسود، إلى أن يكون ممثلاً معروفاً لدى كل السوريين.

على صعيد آخر، وعلى خشبة المسرح، كان ياسر عبد اللطيف يستطيع الخروج من التنميط الحاصل بسبب لون بشرته. هناك، كان يؤدي أي دور يريد، وليس مرهوناً بشخصية "عبد" أو لاعب نيجيري أو طالب إفريقي، بل كان يؤدي جميع الأدوار محيداً تماماً لون بشرته. المسرح الذي قدم ياسر عبد اللطيف كممثل ومخرج، بعيداً عن أي عوامل أخرى، حرره أكثر، ليثبت أن ما يريده الرجل هو حالة مسرحية صحية، وعرض مسرحي جيد، لا مجرد ثرثرة أمام الجمهور. وبعد عدد من العروض المسرحية التي شارك فيها، جاءت صدمة عام 2008 والتي اعتبرها البعض انتحاراً فنياً لياسر عبد اللطيف عندما توقف أثناء عرض مسرحيته "عدو الشعب.. ليس إلا" لأنه لم يرض بالأداء المقدم من قبل شركائه على الخشبة، معتذراً للجمهور عن مواصلة العرض.

إذاً لم يكن ياسر عبد اللطيف يلجأ للمسرح ليؤدي فقط أدوراً خارج الركن الذي أنزلته به الدراما السورية، إنما كان يحاول أن يقدم مسرحاً لائقاً، وعرضاً جيداً، يحترم الجمهور الذي يجلس في الصالة، وبمجرد أنه لم يشعر بذلك أثناء الأداء اعتذر من جمهوره عن مواصلة العرض، لتكون سابقة في المسرح السوري المعاصر لم يجرؤ عليها أحد من الفنانين، وهم الذين يعلمون مدى ارتباطاتهم بالمؤسسات الداعمة للعرض، وبالمكان. وفي الحالة تلك كان المكان هو دار الأوبرا السورية التي تقاضت ثمن البطاقات من الجمهور، وبالتالي تصبح هذه الارتباطات لدى معظم الفنانين أقوى من جودة العرض المقدم في هذه الأمسية أو تلك. هنا لا نحاول القول إن ما فعله ياسر عبد اللطيف كان صائباً أو معيباً، إنما نحاول فقط أن ندخل عالمه لنرى كيف كان يرى الأمور بأمانة، وأنه كان من نوعية الممثلين الذين إذا اعتلوا الخشبة لم يعد يهمهم سوى الجمهور الجالس أمامهم والذي يجب أن يحصل على عرض جيد.

إن لم يكن ياسر عبد اللطيف قد اكتفى بـ"الهامش" الذي وضع فيه خلال عمله في الدراما السورية، فهو أيضاً لم يكتف بأن يكون من ضمن "المتن" العامل في المسرح السوري، والذي يساهم في تشكيل المشهد الثقافي السوري، إنما اختار أن يكون متمردا في كل الحالات، أن يصل للجمهور في منازلهم ويصيب قلوبهم من خلال مشهد هنا ومشهد هناك وبأدوار نمطية لا تساعده بقدر ما كان هو يصنع منها اللحم والدم والابتسامة، وأن يخرج من الصالة لأن الأداء في أحد العروض كان خافتاً ولم يرتقِ إلى إمتاع الجمهور.

ومع دخول سوريا نفقها المظلم، غادر ياسر عبد اللطيف إلى السودان، ليغادر عالمنا بعد ذلك، تاركاً خلفه طاقة جبارة مليئة بالابتسامات التي كان يصنعها كلما أدى شخصية ما، ومن أي منبر أطل.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024