علامات لزمن مقبل

هلال شومان

الخميس 2015/07/02

"كتب لسهى: "أمّا حينما أناقض نفسي بين حديث وآخر فهذا لا يعني أنّني لا أؤمن بأقوالي، تمامًا كما وأنّه لا يشير إلى كوني ألعب أو أحتال أو أكذب، لكن هذه هي طبيعة الكلام نفسه -أيّ كلام. خصوصًا إذا حاول المرء أن يكون صادقًا دائمًا، إذ عليه حينئذ أن يسمح للتناقض الذي يملأ حياته بالدخول إلى قلب كلامه، وإلا فماذا تكون فائدة الكلام؟"
                                        - شاي أسود / ربيع جابر

- 1 -

رفع هيثم كأسه في تلك الليلة  من العام 2011، وذكر فارقًا رآه أساسيًا بين الرواية والقصة القصيرة. أحاول أن أستعيد نظريته بتفاصيلها، لكنّ ذاكرتي لا تسعفني تمامًا. فأنا وقتها كنتُ قد شربتُ كأسين على معدة خاوية. لكن ما أذكره -وأرجو أن أكون صائبًا في استرجاع نظريته  بلا تشويه- يمكن تلخيصه بالجملة التالية: "في الرواية تواصل، وفي المجموعة القصصية انقطاع". وفي هذا الانقطاع الأخير، تكمن سطوة النوع الأدبي المسمّى مجموعة قصصية، سطوة تمنع تطوير الشخصيات مثلًا إلى الحدّ الذي يورّط القارئ بالتواصل ومن ثمّ التماثل معها. إنّ هوية هذا النوع الأدبي المسمّى بالقصص القصيرة قائم على شعور ناقص، يتعاظم بالكثافة والقصر، وإحساس الفقد فيه يأتي من أنّ شيئًا لم يكتمل وأوقف عنوة مانعًا التورّط الذي يؤدي إلى العلاقات المكشوفة مع الشخصيات الخيالية كما هي الحال في كلاسيكيات الرواية. أما فكرتي المحاججة لفكرة هيثم وقتها، مدفوعةً بالطبع بسُكر بسيط، فقد غلبت عليها الشخصنة. قلتُ وقتها إنّي لم أر في مجموعتَيْه القصصيّتين انقطاعًا من أيّ نوع، بل إني مفتون بهيكلة المجموعتين، وأرى فيهما روايتيْن كسرتا أشياء مفروضة على الرواية. وخرجتُ وقتها بجُمل متناقضة من نوع أنّ الهيكل الشكلي هو ما يبني رواية لا مدى ارتباط فصولها ببعض البعض مثلًا، أو كمال قصّتها، وأنّ هناك من كسّر الرواية حتى داخل الهيكل حدثيًا أو زمنيًا، وقمع تطور الشخصيات فيها، وأنه من السهل لملمة هذه الكسور في فصل أخير من الرواية لإغلاق الدائرة أو تركها مفتوحة، ما يعني أنّ الأمر أسخف من أن يُحلّل، ويقيني أنّي إذا ما كنتُ قد شربتُ كأسًا ثالثة ليلتها، لكان يمكن لي أن أتورّط بشيء من نزق السكارى لأنتهي بالقول: يمكن لمن هو مهتم بتواصل متوهّم مع شخصيات روائية أن يعود لحكايا جدته أو أن ينتقي رواية من رفوف روايات الأكثر مبيعًا!

-
2 -
منذ أصبتُ بذلك الألم الدائم في رقبتي وأنا أنام مستلقيًا على ظهري مدعومًا بمخدّة طبية. في البداية، كان الأمر مؤرقًا فأنا لم أعتد النوم على هذا النحو. وكان الوقت يطول قبل أن أقبض على لحظات نعاس ما جعل فكرة أساسية تسيطر عليّ: ما الذي يراه المرء عندما يحدّق في جهة واحدة لساعات طوال؟ قرأتُ فكرة مشابهة في ملخّص صدر في الصحف عن إحدى  روايات دايفيد فينكينوس الصادرة باللغة الفرنسية التي لا أفقهها. ما زلتُ أنتظر ترجمة الرواية إلى الإنكليزية أو العربية، وإلى أن يحدث ذلك، يطيب لي الاعتقاد بأن فينكينوس قد يكون كتب في روايته عن الفكرة الأثيرة لتلازم التحديق في جهة وحيدة مع فعل الاكتشاف المفاجئ. وهذه هواية أمارسها باستمرار، أن أفكّر في توقع وحيد عن شيء مادي لم أتعرف عليه، في هذه الحالة هو رواية لم أقرأها، وأعيد التفكير بفكرتي لمرات عدة حتى تترسب جزءًا من حقيقة في رأسي، قبل أن أعود لأقرأ الرواية، فأحصل على روايتين، الأولى في عقلي، والثانية على الورق، وينقلب فعل القراءة عندي مشاركة مثيرة بين تورّط في حكم مسبق وعودة لمساءلته. وفي حالتي، كانت الإثارة مضاعفة، إذ طاب لي أيضًا أن أفكّر أنّ قراءتي لمثل ذلك المقطع القصير الوصفي عن رواية فينكينوس ذات يوم، أنتج مثل ذلك الألم في رقبتي، وأرغمني على النوم على ظهري، وأيّ سحر يفوق أن يتسلل إليك الألم من حكم مسبق على رواية لم تقرأها!

وأنا قبل أن أستعين بالأدوية المنوّمة، كنتُ أبقى ناظرًا إلى السقف وأُشغِل نفسي بالبحث عن اكتشاف ما حتى أنام. لكنّي لم أكن أجد أيّ تفاصيل مميّزة. لا شقوق، ولا تغيّر في لون الطلاء، ولا أشياء من هذا القبيل. وبقي الأمر على هذا النحو أيامًا إلى أن أقبل شهر تموز، ومعه عاودَت البقعة الرطبة ظهورها السنويّ حول لمبة السقف وأخذَت في التمدّد بشكل يفوق حالتها في الأعوام الفائتة. صاحب البيت قال لي إنّ عليّ أن لا أقلق، وإنّ الأمر طبيعي في مثل هذه المدينة الحارة التي لا تنطفئ في شققها المكيفات، بينما أعلمني أصدقائي أنّ أمراضًا يمكن لها التسلّل إلى الأجساد من بقع الرطوبة العفنة ونسجوا نظرية صحّية كاملة حول الموضوع، أما أنا فاكتفيتُ بوضع وعاء على السرير تحت اللمبة ليجمع قطرات الماء التي تسقط من البقعة، وبتعويد نفسي أن لا ألبط الوعاء وأنا نائم، أو بالصحو ليلًا إذا ما لبطتُه بلا قصد وإعادته إلى مكانه الأصلي تحت اللمبة، وبزجر القطة الذي كان فضولها يقتلها - كسائر القطط- لتفقّد محتويات الوعاء وتذوق الماء المترسّب (كي لا تمرض بحسب نظرية أصدقائي). ثم لم ألبث أن تذكّرتُ فجأة كتابتي عن بقعة رطوبة تتحرك في سقف غرفة في إحدى رواياتي، لتتضاعف عندي الإثارة: لقد اجتمع عندي افتراضان عن روايتين، الافتراض الأول سلك طريقه من الماضي بالتأكيد، والافتراض الثاني يسلك طريقه من المستقبل على الأرجح.

-
3 -
أشعر أحيانًا أني أترك خلفي علامات لزمن مقبل. أتركها أو تُترَك فيّ، لا أستطيع أن أحدد كثيرًا ولا أن أشرح، فأنا نفسي لا أفهم. يمكنني القول إنّه لطالما حدثت معي تلك اللحظات التي أنظر فيها إلى تفصيل في مشهد أراه أو أفكر في فكرة تراودني فينطبعان في مشهد بصري في ذاكرتي. ويبدو أنّ الأمر انتهى هنا، لولا أن أحداثًا لاحقة تحدث فعلاً (؟) وتستعيد تفاصيل من تلك المشاهد المطبوعة، فيخيّل إليّ أنّ مسارات كاملة من علاقات وأماكن وأحداث قد تقاطعت فجأة، ويصير ما انطبع عندي، وإن كان وهمًا في لا وعيي، جزءًا من شيء ما يتشكّل أمامي. وبين ثنايا هذا التشكل المفترض، تنبض إثارة أخرى، لأنّ في مثل هذه العودة لتلك العلامات المميّزة، تأكيدًا ما عن كينونتها، وإعادة اتصال بما خيّل أنه انقطع، وخريطة تتبدّى فجأة أمام النظر.

-
4 -
ما سبق كان قصصًا انقطعت ولم تكتمل، لكن أمكن لها أن تتصل بالترقيم، وإن ناقضَ بعضها البعض الآخر.

 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024