"يا فناني الهراء، تسيّسوا!"

روجيه عوطة

الخميس 2019/05/30
ثمة صرخة، أو بالأحرى أنين يصدر عن عالم الفن في باريس. فها هم مجموعة من الفنانين المجهولين يتجمعون لإصدار جريدة تخصهم، وتتناول شؤونهم على ما هي، ليس في وجهها الإدعائي، الذي يثبت على بريق لا يتوقف، إنما في دورانها، في ارتطماتها، في حادثاتها، وأحاديثها، التي، وإن سمعها الفنان المؤسساتي الرسمي، سينزعج في سرّه، قبل أن ترتسم على وجهه ابتسامة صفراء، ويشرع في التخفيف منها.

لقد اجتمع هؤلاء على انتاج صحيفة، لكنها ليست صحيفة كغيرها، بحيث أنها، وعدا عن تباين موضوعها، تتباين في موضعها: مُعدّة للتعليق على الجدار. إذ ألصقها أصحابها على جدران قريبة من "غران باليه"، و"سنتر بومبيدو" و"باليه دو طوكيو" و"جون كرياسيون"، وفعلياً، عناوينها تخص هذه الأمكنة، بل إنها، وبطريقة ما، موجهة ضدها.

حملت هذه الصحيفة اسم la coupure، القطيعة، وفي وسطها، برز شعار، قوامه اللعب-وعذراً على التعبير: "فنانو الخراء، تسيسوا". طبعاً، عبارة "merde" هنا تحيل إلى تلك المقولة التي لطالما رددها المانزونيين (نسبةً إلى بييرو منزوني، صاحب عمل merde d'artiste)، ومفادها: في أعمالنا، نحن نبيع الخراء، ولا نبيع غيره. وفي الوقت نفسه، تحيل تلك العبارة إلى اعتراض يسجله مدبجو الشعار على مزاولي فنهم من دون أي سياسة. الجميع يعرف ذلك الفنان، الذي يبشر ليلاً ونهاراً بإيديولوجيته، لكنه ليلاً ونهاراً أيضاً، يبرر ما يعارض ايديولوجيته جذرياً في عالمه، أو في جانبه الظلامي تحديداً، مقدما إياه بأنه ليس سيئاً، أو أنه سيء ولا بأس به. فإما، النكران، أو الوقاحة!

جاءت في هذه الصحيفة أنباء عديدة، تدور حول أوضاع الغالبية من الفنانين ورفاقهم من الشغيلة في عالمهم المؤلّف من مؤسسات وأسواق. لا حاجة إلى التفتيش كثيراً عن وصف ملائم لهذه الأوضاع، إذ إنها أوضاع "merdiques" أيضاً. فها هو متحف الفن الحديث في نيويورك، "موما"، الذي يقدمه القيمون عليه كمصنع الأفكار التقدمية والثورية، يرفض دفع رواتب العاملات والعمال فيه. الأمر نفسه ينسحب على الفنان تينو زيغال، الذي لم يدفع أجور الأطفال الذين "شاركوا" في عمل من أعماله. وفي السياق ذاته، لم يدفع المهرجان الذي ينظمه مركز "أوأوأوه" (ouoùoh) أجر فنان كان قد قدم عمله فيه، والسبب "لأنه ليس عملاً مهماً". كما أن صالون الفن المعاصر يستخدم متدربين، ما يُعدّ فِعلاً غير قانوني، ومن دون أن يدفع أجورهم أيضاً.

في مقلَب متصل، كان المهدي قتبي، رئيس المؤسسة الوطنية للمتاحف في المغرب، قد اتصل بمدير "سنتر بومبيدو" سيرج لافينيه، دافعاً إياه إلى سحب عمل من إحدى صالات المركز لأنه يتطرق إلى جبهة البوليساريو المعارضة للنظام. ثم إن صاحب غاليري "بوغادا، كرنيل" قال عن المتظاهرين في باريس إنهم يستحقون وضع سوار حول معاصمهم لمنعهم من التظاهر في المستقبل.

بين الأنباء، تعود الصحيفة الجدارية إلى أحداث قديمة ومجهولة في عالم الفن، أو تقتبس من هنا وهناك لأجل التأكيد على ما جاء في الخبر السابق، وما يجيء في الخبر اللاحق. ففضلاً عن موضوعها وموضعها، للصحيفة إخراج متناسق، إبداعي في شكله، ما يجعلها محاولة نصية، وعرضاً نبأياً على حد سواء.

يقف القارئ أمام هذا الصحيفة، مستفهماً عن سبيل التسييس الذي تدعو إليه. فهل هو نقابي؟ هل يستند إلى "تغيير من الداخل"؟ هل هو قطيعة الفنانين مع عالمهم؟ هل هو "كلمة حق"؟ ما هذا التسييس؟ قد يصح القول أنه ذلك كله، وأكثر، مثلما أنه حاصل، ويحصل يومياً. فالصحيفة، التي تصدر عن جهة مجهولة، هي لسان حال الكثير من شغيلة الفن، الذي يصارعون كي لا يخنقهم "الخراء"... حسناً، وبيروت؟ على كل جدار، هناك حاجة إلى ألف صحيفة من قبيلها، ألف صحيفة من أجل تسييس الهراء!
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024