مارادونا: إبليس نفسه ويسوع أيضاً

شادي لويس

السبت 2020/11/28
"نصف البلد يبكي، والنصف الآخر يقول إنه إبليس نفسه. إما إله أو شيطان"، تكتب لي صديقتي من بوينس أيريس. في بلد ترتدي نساؤه في كل مكان الأوشحة الخضراء، شعار النسوية اللاتينية، جِلداً آخر فوق جلودهن، كيف لها أن تتجاهل صورة مارادونا زير النساء، مارادونا الخيانات الزوجية، وطفلين رفض الاعتراف بهما بعناد، سوى في قاعات المحاكم. لكنها تخبرني بعدها، "ما لم أستطع طرده من رأسي، هو ذكريات مونديال 90، كنت في التاسعة من عمري، وتلك المشاعر التي تعجز عن وصفها الكلمات".

صورة مارادونا المراهق الفقير، و"الأسود" كما كانوا ينادونه، يُرَقّص الكرة على قدميه أمام بيوت الصفيح لحي "فيشا فيوريتو" المعدم، جنباً إلى جنب مع صوره بمعطف المينك وفي حفلات الشمبانيا الباذخة، نشوة خطوط الهيروين، ومع رجالات المافيا يتباهون به في شوارع نابولي. وهناك أيضاً، في مدينته الإيطالية بالتبني، الجماهير التي استقبلته بعشرات الآلاف وطبعت على جدران بيوتها أيقونته بهالة النور حول رأسه، "القديس مارادونا"، هي نفسها التي طاردته في النهاية مكللاً بالعار، حين أصبحت محبته خيانة لإيطاليا. وحتى صورته الوحيدة رافعاً علم فلسطين، تعاندها صورة أخرى له بالقبعة اليهودية أمام حائط المبكى.

كاتب الأورغواي وشاعرها، ماريو بينيديتي، الذي كتب ذات مرة: "لا أعرف إن كان الله موجوداً"، عاد بعدها ليقول عبارته الشهيرة: "هدف مارادونا في الإنكليز بمساعدة اليد الإلهية، هو الدليل الوحيد المؤكد على وجود الله". اليد الإلهية، يد مارادونا نفسه، معجزة الانتقام الإلهي من حرب الفوكلاند، علامة انتصار الضعفاء على الأقوياء، هي أيضاً يد الخديعة والاحتيال. الشر طريقنا لمعرفة الخير، يقول اللاهوتيون، إبليس كذلك هو الدليل على وجود الله، رئيس الملائكة الساقط لأنه تمرد على نظام الأشياء. للكثيرين، صعود الفتى المعدم إلى مصاف الآلهة، لم يكن تمرداً صرفاً، بل كان، في جزء منه، تماهياً مع شرور العالم على حاله، مع ماكينة النجومية، وتسليع الأجساد في سوق الاحتراف الكروي، الثروة السهلة وبذخها الفاحش، التهرب من الضرائب، فساد نابولي العفن ومافياتها، وسلطوية كاسترو الذي يحمل اللاعب صورته وشماً على بطة ساقه.

كما في حياته، كذلك في موته، يظل مارادونا سبباً لاضطراب النظام والروايات المتناقضة. تقرير الوفاة الرسمي يقول إنه مات أثناء نومه، لكن بعضاً ممن كانوا حوله في ساعاته الأخيرة، يروون نسخة أخرى من الأحداث: استيقظ يومها، ثم شعر بالتعب وعاد إلى غرفته، محاميه، المقرب منه والمكروه من عائلته، يصرح بإنه مات من الإهمال، 24 ساعة بلا رعاية طبية وسيارة الإسعاف وصلت نصف ساعة متأخرة، يصفها بأنها "جريمة الغباء". وأحد أطبائه المقربين يقول إن موته كان من الممكن تفاديه، صرفه المتعجل من المشفى بعد جراحة المخ التي خضع لها، مطلع الشهر، كان خطأ قاتلاً. الجنازة انقلبت بعد ساعات، إلى أحداث شغب، الطوابير الطويلة من المشيعين في ميدان مايو فقدت صبرها، قبلها طلبت العائلة إنهاء المراسم ونقل الجثمان، وغضب الآلاف الذين لم تتح لهم فرصة إلقاء النظرة الأخيرة، وحطموا أجزاء من سور القصر الرئاسي وقفزوا إلى ساحته، وردّت الشرطة بإطلاق الغاز وفتحت قوات الإطفاء خراطيم المياه، مئات المصابين والموقوفين. يتكرر الأمر نفسه، عند أطراف العاصمة، خارج المقبرة الخاصة، حيث اقتصرت المراسم على عشرين أو أكثر قليلاً من أفراد الأسرة، سدت الجماهير البوابات، وتجددت الاشتباكات. من يملك جسد مارادونا وحق النظرة الأخيرة؟ الحشود القادمة من الضواحي الفقيرة، أم العائلة؟

هؤلاء الذين نصبوا مارادونا إلهاً، والآخرون الذين يرونه شيطاناً، جميعهم يؤمنون أنه- كما تقول أغنية أندريس كالامارو عنه- "ليس مجرد شخص". أو كما يغني مارادونا نفسه في فيلم أمير كوستوريكا:
إنه يحمل صليباً على كتفيه لأنه الأفضل
لأنه لم يبع نفسه للسلطة التي واجهها
خطيئة الفضول
إذا كان يسوع قد تعثر
فكيف هو لا يتعثر. 

أغنية "يد الله" من فيلم "مارادونا" لأمير كوستوريكا

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024