نقل معرض القاهرة للكتاب: حل مشاكل العاصمة بهجرها

وجدي الكومي

الخميس 2018/08/23
فجأة أدرك جمهور المثقفين في مصر، والناس أجمعين.. نهاية شهر يوليو/تموز الماضي، أن وزارة الثقافة المصرية قررت إقامة الدورة الخمسين لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، واﻻحتفال بيوبيله الذهبي (تأسس المعرض عام 1969) في ضاحية التجمع الخامس التي تبعد عن مركز القاهرة حوالي نصف ساعة بسيارة قوية، وفي طرق خالية، وخلال أيام اﻷعياد والعطلات الرسمية، الحكومية. أما في أوقات الزحام، وساعات الذروة المعتادة التي تعانيها رئات القاهرة الضيقة، فيحتاج الوصول إلى ضاحية التجمع الخامس أكثر من ساعة، سواء من طريق الطريق الدائري شديد الزحام، أو من طريق جسر أكتوبر العملاق الذي يرتفع في سماء القاهرة، ويصب في نهايته عند بدايات محور المشير طنطاوي، ومنه إلى المقر الجديد الذي سيستقبل الناشرين المصريين والعرب، في مركز مصر للمعارض الدولية.

قبل هذه الحكاية بنحو عام، انفجر الجدل عندما أعلن حلمي النمنم، وزير الثقافة المصري السابق، في نهاية دورة معرض الكتاب الثامنة واﻷربعين، نقل المعرض إلى ضاحية التجمع الخامس، خلال الدورة المنقضية (التاسعة واﻷربعين). وقتها دشن المثقفون في مواقع التواصل الاجتماعي، هاشتاغات هددوا فيها بمقاطعة المعرض، وكتبوا في صفحاتهم بيانات، وجمعوا توقيعات نددوا فيها بمحاولة انتزاع معرض الكتاب من أيديهم. وربما نجحت هذه الحملات جزئياً. إذ أقيم معرض القاهرة الدولي في دورته الماضية في المنطقة نفسها بضاحية مدينة نصر، وهي قريبة من مختلف ضواحي القاهرة، ولعل التعبير اﻷمثل يكمن في تسمية مدينة نصر بـ"ضاحية جمال عبد الناصر" التي أسسها في الستينات لتكون امتداداً للقاهرة، وتمدداً سكنياً ﻷبناء الطبقة الوسطى. وبعد عقود، تحولت مدينة نصر إلى سكن اﻷثرياء، وصارت بعيدة المنال من أبناء الطبقة الوسطى، حتى ربط قلبها بالقاهرة مشروع مترو اﻷنفاق، الذي "قرّب البعيد" فعلاً، وألغى المسافات، فصارت محطة مترو "أرض المعارض" معلماً محبباً لمرتادي معرض الكتاب كل عام، وإيذاناً بانتهاء مشقته مع حمل الكتب، خصوصاً أنها مواصلات سريعة وآمنة، وتنهي معاناة ضياع اليوم في المواصلات الرابطة بين ميداني رمسيس وعبد المنعم رياض، وأرض المعارض في مدينة نصر، وتوفر الوقت لمرتادي المعرض بالتجول بين اﻷروقة وأجنحة الناشرين، طيلة اليوم، وتفقد الكتب كما يحلو لهم. ولا يخلو اﻷمر من فسحة عائلية محببة للأطفال واﻷسر الراغبة في اصطحاب أبنائها لفسحة آمنة بين أروقة الثقافة.

ضيف الشرف الثقيل
لكن في الكواليس، كان أمر آخر يدبّر لجمهور معرض القاهرة المصري والعربي..
إذ من المقرر أن تحتفل وزارة الثقافة هذا العام بيوبيل المعرض الذهبي بمناسبة مرور خمسين عاماً على إطلاقه. وأعلنت هيئة الكتاب المصرية، أن جامعة الدول العربية ستحل ضيف شرف للمرة اﻷولى في المعرض، كما سيُحتفل بثروت عكاشة، وزير الثقافة المصري الراحل، في محور شخصية المعرض. ويبدو أن ضيف الشرف وضع شروطاً لاستضافته، واختار موضعاً غير الموضع الذي تقام فيه الفعالية كل مرة، بما يشي بأن اﻷولوية ليست لجمهور الثقافة أو الفعالية، وإنما اﻷولوية للبرستيج، والمنظر.

تبدو كل الحلول التي يضعها المسؤولون المصريون ﻹصلاح فوضى إقامة الفعاليات في العاصمة، تُجهز على اﻷخيرة، وتتجه تدريجياً لتفريغها من محتواها. وعلى الرغم من ضرورة أن تكون احتفالية اليوبيل الذهبي، في الموضع نفسه الذي شهدته إقامة فعالية معرض الكتاب لسنوات، إلا أن الحل لا ينتصر للنوستالجيا، ولا للجماهير نفسها، بل يأخذ المعرض من أيديهم ومن قلوبهم، إلى أبعد بقعة بالكاد يستطيعون أن يصلوا إليها، بمواصلات تكلفهم ذهاباً وإياباً ثمانين جنيهاً أو حوالى خمسة دولارات، وهو مبلغ لا يستهان به في ظل أوضاع اقتصادية قاسية، تنفقه أسرة فقط من أجل الذهاب إلى معرض للكتاب.
التخوف اﻵخر الذي تجنب المجادلون والمدافعون التطرق إليه، هو ارتفاع قيمة إيجارات أجنحة الناشرين في أرض المعارض الجديدة. وهو السر الذي لم يعرفه الناشرون بعد. وبينما كان إيجار جناح الناشر المصري يصل إلى 5500 جنيه في مساحة تسعة أمتار، أي حوالى 310 دولارات للناشر المصري، يرجح ناشرون، فضلوا عدم ذكر أسمائهم، أن الجناح سيرتفع إيجاره أكثر من هذا المبلغ، وسط ترجيحات لناشرين آخرين بأن هيئة الكتاب ستتفاوض على جعل سعر إيجار اﻷجنحة مماثلاً لسعر دورة الكتاب الماضية، بمناسبة الاحتفال باليوبيل الذهبي، دعماً للناشرين، كي لا تزيد أسعار كتبهم بمناسبة اﻻنتقال، لكن أسعار اﻷجنحة الجديدة ما زالت في علم الغيب.


ويقاوم مثقفون مقولات أن الجمهور سيقاطع المعرض في موضعه الجديد، بل يدافعون عن الانتقال، ويرون أن التجمع الخامس لم يعد ضاحية بعيدة، مغلقة على اﻷثرياء، بل تحولت إلى ضاحية جاذبة لسهرات المصريين، والشباب، في المولات الفاخرة، والقريبة من مراكز التسوق الكبيرة. وذهب مثقفون آخرون إلى رفض فكرة التمسك بالجمهور، ورفض النظرية التي تتحدث عن الرغبة في تفكيك القاهرة بخلخلة فعالياتها الثقافية الكبيرة، مثل معرض القاهرة الدولي للكتاب. ويرى بعضهم أن التمسك بالجمهور الكبير تسبب في ضياع فعاليات ثقافية مهمة، وسط مولد سببه زحام كاذب. ويقول الروائي المصري ياسر عبد الحافظ، في صفحته في فايسبوك خلال مناقشة مع كاتب هذه السطور: "مسألة الجمهور دي لا بدّ من إعادة النظر فيها بالكامل لأن فيها مبالغات كتير جداً، من الجمهور الذي تريد؟ وما الذي تريده له؟ عاوز جمهور يملأ المساحات الفارغة في النشاط الثقافي، وتقول في النهاية بعنا كام مليون تذكرة لنطمئن أن لدينا قراء؟ في حين أننا جميعاً نعرف الحقيقة، لكننا نريد أن تستمر الأكذوبة، لأن عكسها مخيف ولا قدرة لنا على الاعتراف به.. وهكذا فمن حق الأسر الذهاب إلى المعرض حتى لو لم يكن هدفها الكتاب أو الندوات.. وهكذا أيضا لدينا من اﻵن رد جاهز، عندما يقل عدد الجمهور عن المعرض عندما ينتقل.. الحكومة السبب لأن المكان بعيد. طبعاً أنا وأنت أكثر وعياً من أن نلعب لعبة من يهاجم ومن يدافع، لكني أقول وجهة نظري ولست مهتما بكيفية قراءتها".
ويتابع ياسر عبد الحافظ: "أنت نقلت معرض الكتاب من مدينة نصر إلى التجمع، وكلاهما بالمناسبة صحراء، لا أعرف متى اعتبرنا مدينة نصر جزءاً من مركز القاهرة الثقافية الذي تتكلم هنا عن عملية تصحيرها لصالح مناطق أخرى، وفي تقديري أنك بعملية النقل توفر الشروط المناسبة لمعرض كتاب وليس لمولد ضاع فيه المثقف والكتاب معاً".

وكنت قد طرحت خلال مناقشتي مع ياسر عبد الحافظ، فكرة تفكيك القاهرة بنقل فعالياتها الثقافية، وهي الفكرة التي لم يقتنع بها، إذ علّق عليها قائلاً: "مسألة تفكيك القاهرة التي تحدثت عنها مثيرة فعلاً كما رسمتها أنت، لكنها تبدو رؤية تبالغ في المثالية بلا فعالية، وهو خطاب اعتدنا عليه ولا أعرف الهدف منه سوى أن نستمر في ترداده.. لا أقصد الهجوم والتسفيه عذراً، لكني أشعر أنك تتحدث عن جمهور لا أراه ولا أعرفه، هذا الذي حرمناه من رؤية تمثال رمسيس.. هل تتحدث عن نفس الناس الذين أراهم يوميا، أم هذا جمهور تتمناه؟!".

(*) معرض القاهرة للكتاب: دُشّن للمرة الأولى العام 1969، ومن المقرر أن ينطلق هذا العام في مركز مصر للمعارض الدولية بمنطقة التجمع الخامس، في الفترة من 23 يناير/كانون الثاني، حتى الخامس من فبراير/شباط.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024