جوسلين صعب لـ"المدن": أستعيد التاريخ بالصورة.. لأصحح سرده

روجيه عوطة

السبت 2015/11/14
سحبت جوسلين صعب علبة أفلامها من تحت سريرها، وأعطتها لماتيلد روكسيل، التي عمدت إلى تناول المخرجة كموضوع لرسالتها الأكاديمية. روكسيل التي درست الفلسفة وفن التاريخ، قررت البحث في أعمال صعب، الآتية إلى السينما من الإقتصاد والصحافة. التقيا، وفي إثر ذلك، كتبت روكسيل كتاب "الذاكرة الجموحة" (دار النهار) عن المخرجة، وتناولت فيه الكثير من الموضوعات المرتبطة بعلاقة صعب بالسينما، كاللغة، الجسد، والفضاء، والتاريخ...
عن الكتاب، وأفلامها، ونظرتها إلى السينما، هنا حوار أجرته "المدن" مع جوسلين صعب.


- كيف جرى التعاون بينك وبين ماتيلد روكسيل، حيال كتاب "الذاكرة الجموحة"؟

* كانت ماتيلد روكسيل في صدد التفتيش عن موضوع لأطروحتها الجامعية، عندما وقعت على مقابلة صحافية، كنت قد أجريتها مع إحدى المجلات الفرنسية. وفي الوقت نفسه، قامت السينماتيك الفرنسية نيكول برونيز بتكريمي عبر عرض استعادي لأفلامي ضمن مهرجان "مضيئو الكون"، ويومها، كتب أحدهم نصاً عني في موقع إلكتروني. انجذبت ماتيلد إلى عملي، وطرحته كموضوع لبحثها الأكاديمي، وتقدمت بطلب تبادل دراسي بين بيروت وليون. التقيتها، وأخبرتني عن مشروعها، قلت لها أن الطريقة الأفضل لتكون على بينة من شغلي، أن تساعدني في تنظيم مهرجان "الثقافة تقاوم" السينمائي Cultural Resistance Film Festival، فجرى التعاون بيننا لمدة ثلاثة أشهر، استطاعت خلالها أن تتعرف عليّ عن قرب، وتستمع إلى ما أقوله، وترى ما أفعله. ولما طلبت مني أفلامي، سحبت صندوقاً من تحت سريري في غرفتي المطلة على البحر، وأعطيتها إياه. في تلك الفترة، كنت متعبةً من أحوال عملي، لا سيما أنني، في كل مرة أريد أن أخرج فيلماً، أجد أن الظروف في لبنان تعيقني. في النتيجة، لم تعمد ماتيلد سوى إلى إجراء مقابلة واحدة معي فقط، استعملتها في كتابها، الذي حلل علاقتي بالصورة، وقارب أفلامي من وجهات نظر مختلفة، لا سيما انطلاقاً من التزامي الإستيطيقي، والتزامي بمسائل الإجتماع والسياسة في لبنان. بعدما انتهت ماتيلد من رسالتها في الماجستير، حولتها إلى كتاب بمساعدة جنى تامر من "دار النهار".

- هذا العام، حمل مهرجان "الثقافة تقاوم" الذي عاونتك فيه روكسيل، عنوان "تحت القمامة: التراث والهوية". لماذا ربطتم بين القمامة من جهة والهوية والتراث من جهة أخرى، لماذا لم تعرضوا أفلاماً عن القمامة فحسب؟

* لأننا لا نحبذ المباشرة في اختيار الأفلام، ثم أن النفايات على صلة بتخريب التراث وتخريب الهوية، فضلاً عن صلتها بالمافيات، وعن فكرة انتقال إرث العنف بين الناس، تماماً مثلما يجري في البلد. ضم المهرجان ثلاثة أفلام، واحد عن المافيا، وثانٍ عن الهوية، وثالث عن الأرمن، وهو كان قد أخرجه أحد الفرنسيين خلال القرن المنصرم، عن فرقة روسية أرمنية أتت إلى لبنان ومثلت في الكازينو.




- هل تحضرين لفيلم طويل؟

* أعمل الآن على فيلمين قصيرين، الأول عن المهجرين، والثاني عن المُدنية الراهنة. مثلما أجهز نفسي للشروع في تصوير فيلم طويل عن آسيا داغر، كما رآها بعض المقربين منها، وعبر هذا الفيلم، أتناول موضوع السينما في لبنان، بدايتها على وجه الدقة.

- ما رأيك بالسينما اليوم، لا سيما إنتاجها المركز على موضوع الحرب، وهذا التركيز غالباً ما يقلب إلى هجس؟

* ربما، هذا التركيز الدائم على الحرب مرده هو أن القول في هذه الموضوع قليل. فعلى الرغم من الكلام الكثير عنها، إلا أن مقارباتها شحيحة، ومتماثلة. فعلياً، لم تُستنزف الحرب كموضوع لأنها ما زالت مستمرة.

- يعني المشكلة في المقاربة وليست في تناول الموضوع نفسه؟

* صحيح، والشغل دائماً يستند إلى "إتيكيت" بعينه. قليلون هم المخرجون الذين يسعون إلى تخريب السردية الرسمية عن الحرب. الدولة لا تسمح بذلك، والمخرجون لا يسمحون لأنفسهم القيام بهذا الفعل، فيتحدثون عن أنفسهم أكثر مما يتحدثون أو يقولون شيئاً ما عن الحرب ومشاكلها. لكن، جيد، وهل تعتقد أن السينما في لبنان بألف خير؟ التمويل في مكان، والسينمائيون، في مكان آخر. 

- لكن، هناك تمويل، وتمويل ضخم، غير أنه يتوزع على أعمال، يجري التحضير لها لسنوات، وبعد ذلك، تبدو كأنها بلا طائل.

* نعم، وعندما تنتقد ذلك، يقولون لك:"لكنها الديومقراطية"، عن أي ديمقراطية يتكلم هؤلاء؟ عن التكلم بخطاب واحد ولو كانت عباراته مختلفة؟! وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن الممولين اليوم يفضلون توزيع بعض الأموال على انتاج الأفلام القصيرة وليس الطويلة، وبذلك، يخرج الفنان فيلماً واحداً، يحتفى به، ومن ثم ينتقل للعمل في مجال الدعايات أو في أي مجال بصري لا يمت لمهنته بصلة.

- ما الحل، أو بالأحرى، ما هي الإشكالية الفعلية؟

* لا إدارة سينمائية عندنا، ولا رؤية جدية ومبتكرة في مجال السينما. أضف إلى ذلك، أن السينما في لبنان ما زالت تُعتبر وكأنها مجال غير تجاري، ومحصور في إنتاج الفيديوكليبات أو البرامج حصراً، يعني أنه محصور في أدنى مستويات التجارة وأقلها إبداعاً. ثم، أن التعامل السائد معها يُبعدها أكثر فأكثر عن المجالات الأخرى، ألا يحق لهذه البلاد أن تؤرخ عبر الصورة التي أخرجتها؟ عدا عن كون وزارة الثقافة في "خبر كان" بالنسبة إلى السينما المحلية، فهذه المؤسسة لا تفعل شيئاً سوى تصنيف الفنانين بين "كبار" و"شباب"، والكل يدرك أن هذا التصنيف لا داعي له، وانه خالٍ من أي معنى.




- في أفلامك، وعلى الدوام، ثمة ميل تأريخي، ما علاقة السينما بالتاريخ من ناحية أعمالك؟

* أميل إلى التأريخ بلا أن أكون مصابة بعقدة التاريخ، أوازن باستمرار بين الشخصي والعام، وهذا، على ما اعتقد، سببه أنني أتيت إلى السينما من مجال مغاير لها، أي من الإقتصاد، كما أتيت إليها بلا أفكار مطلقة، سياسية كانت أم غيرها. هذا ما جعلني أنحاز إلى مهنتي، وأتعامل معها كأنها نوع من القتال على الجبهة، ومن خلالها أقارب مواضيع كثيرة، وقعت في الماضي، لكن أثرها متواصل. وذلك، بلا أن يستطيع أحدهم أن يصنفني أو يؤطرني. حسناً، يُقال إني "يسارية"، لكني لم أنتسب على طوال حياتي إلى حزب أو تنظيم، ولم أستند إلى كلام أي طرف كي أفهم ما يحصل في البلاد. أحمل الكاميرا، وأرى بطريقة أبعد، لكن للأسف، يبدو أن القيمين على البلد يحاولون إخفاء هذا البُعد، كي لا ننظر نحوه.

- ألا ينتابك الحذر من كون الاستعادة التاريخية قد توقعك في فخ الماضي وتبجيله؟

* أطرح على نفسي هذا السؤال دائماً، ولذلك، أستعيد موضوعات راهنة من الماضي، كالسلوى والرقص والجسد على سبيل المثال. مثلما أكتب بطريقة لا تقدس الماضي، ولا ترفع من قيمته، ولا تحوله إلى "زمن جميل"، لا أرغب سوى في العودة إليه. أرجع إلى الزمن السابق، من أجل أن أصحح خطأ في تأريخه. فلما أسمع أن السينما في لبنان بدأت مع هذا الشخص وليس ذلك، أذهب إلى التاريخ لأفهم وأصحح. وربما، كتاب ماتيلد يندرج في هذا السياق، سياق استعادة السينما بلا تقديسها، أو جعلها حقلاً للأسماء فقط، وليس للصور التي صنعتها تلك الأسماء. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024