الأرامل السوريات المنسيات: بين ذكورية الحرب ونسوية فارغة

أدهم حنا

السبت 2021/04/03
لم تغب تصورات النظام السوري الجنوسية الذكورية عن هيئته وممارساته ضد الشعب. طابع عنفي ذكوري اتسم بهِ النظام في كلّ ما يقوم به. الجنوسة بالمعنى الاجتماعي؛ هي الأفكار والتصورات الاجتماعية المتمثلة في الثقافة الذكورية، التي تتحكم بالتنشئة والسلوك والدين والعادة والتقاليد. تبدو تصورات النظام في التعامل مع المرأة ذات طابع استهلاكي واضح، أو أنّها محافظة تسعى إلى حماية الأساس الاجتماعي المتخلف لدور المرأة بوصفها غير متساوية مع الذكَر، وحياتها أقلّ شأناً من حياته. كانت الحرب ذكورية عنيفة حتى الرمق الأخير؛ ومنذ اليوم الأول للثورة استعان النظام بالمرأة، كوسيلة للتعبير عن الضعف الاجتماعي من جراء الخوف عليها أو ضرورة حمايتها. أما تعنيف الرجال فقد كان أمراً شائعاً؛ فأسر الرجال وتعذيبهم وتجويعهم كان بمثابة تسلية آخر النهار بالنسبة إلى أيدي النظام وضبّاطه؛ ذلك التعذيب الذي أخذ صورة تحطيم مضاعف للعائلات كُلها، ليس لأن المجتمع يقوم على العائلة فقط، بل لأن العائلة يمكن اختزالها في فرد من أفرادها وهو رب هذه العائلة -الرجل- أي الأساس في التصور الاجتماعي لقيام العائلة وبقائها، وأذيته أو نفيه، تعني أذية العائلة كلّها.

للتعذيب في المجتمعات الذكورية، ميزة تجاوز الحاجة إلى أذية النساء والفتيان والأطفال في بداية الأمر؛ أي تحطيم العائلة كلّها بتحطيم ذَكَرها. لكن اتساع الثورة وتحركها بالسلاح جعل النظام في آلة عنفه، غير مقيد وغير قادر على تحديد ضرباته لرأس العائلة، فأداة الحرب تُحرق الجميع، هنا باتت الحرب مزدوجة أيضاً. فهو نفسه بات قاتلاً لعدد أكبر من الرجال وُمشرِّداً للعائلات. في ثقافة الحرب يكون الرجال أصحاب الدور البارز، بطبيعة الحال لا تتمتع النساء في العالم كله بأدوار محرّكة في الحروب، فماذا عن مجتمع متخلف كالمجتمع السوري إذن؟ بدأ الصراع على النساء من دائرة استهلاك العواطف، النظام زجّ بالثقافة الرمزية للشهادة والحديد والتباكي على أُسر الشهداء، في كل وسائله الإعلاميّة واحتفالاته ومناسباته؛ بغية استدرار تضامن اجتماعي. الرجال للحرب، والمرأة الأم والزوجة والفتاة هي الدافع إلى توليد عنف أكبر وحرب مستمرّة، كل ذلك من خلال العويل والبكاء والفقد وتشكيل سرديات درامية تدفع حاضنة النظام نحو انتفاض عنفواني جُرمي انتقامي.

هنا صعدت أرقام الأرامل في سوريا. ولا يُمكن مقارنة عدد الأرامل داخل سوريا وخارجها، فالنظام يمنع منعاً باتاً في مناطقه تخصيص أو دعم العمل الخيري أو الإنساني النسوي؛ لذا لا نملك أرقاماً لحجم المصيبة التي خلفها، خصوصاً في حاضنته الأساسية؛ الساحل السوري ومنطقة جبال العلويين. ولأن الحرب هي البؤرة الأكبر لتشكل معنى الفروق الجنسية، فإن حرب سوريا خلقت أرامل إلى الحد الذي أصبح فيه الوضع مشيناً، ومكرِّساً لأزمات متتالية.

شهدت سنين الحرب الأولى محاولة النظام خلق أبطال ذكوريين، يقيم على أجسادهم حرباً بصورتها الدرامية. لقد نما لدى العلويين -الحاضنة العسكرية الأوضح للنظام- فكر ديني مقترن بالعنف الذي دُفعوا إليه، وبدأ استنساخ حالة ممزوجة بطابع ديني، عبر خلق الفرسان والأبطال، وخلط الملاحم الدينية التاريخية بالشخصيات الواقعية. لم يستطع النظام البقاء في الحرب من دون خلق رمزية للرجال يعتاشون عليها ويدمجونها في سلوكهم، واختلاق رموز قصصية بطولية لتسويغ قسوتهم. أما النساء، فهن يظهرن كجماعاتٍ باكية على وسائل الإعلام، وعائلات فقدت معيلها ورجلها القوي. آثار الدمار العائلي صورها النظام بتركيزه على النساء، في هذا يتم استخدامهن في جميع المؤسسات التي تسيطر عليها الدولة؛ (جمعيات أسر الشهداء)، (شعر وقصائد للشهيد)، (أغاني الشهيد)، (تبرعات لذوي الشهداء)، كلها رموز ومصطلحات معممة تتبع الذكر بوصفه أصل الفقد وجدوى حياة العائلة. أما الأرامل فهن بلا قيمة، هذا اجتماعياً وبطبيعة العائلة البطريركية، التي تقوم على الأب، الرجل فقط.

تميز سيلفيا ويلبي، بين البطريركية الخاصة والبطريركية العامة. في سوريا، ما إن تُفقَد البطريركية الخاصة، حتى تُنتهك المرأة سريعاً عبر البطريركية العامة. شهد جيش النظام خسارات بالآلاف، ما خلف عدداً بشرياً كبيراً من العائلات التي بدت بلا معيل. هنا البطريركية العامة تفعل فعلها؛ آلاف العائلات التي لم يستطع النظام تعويضها مالياً حتى اليوم، وعائلات اختلف فيها ذوي الشهيد على الإرث والتعويضات وغيره. شهدت سوريا، تحت حكم النظام، فضائح توازي فضائح مخيمات اللاجئين. لقد أُهملت المرأة الأرملة في سوريا، وتأذّت بما فيه الكفاية؛، تحرش، محاولات اعتداء، عدم كفاية اجتماعية. في المناطق التي نزح إليها السوريون، استطاعت منظمات دولية وعربية فصل الأرامل السوريات عن اللاجئين الذكور في لبنان وتركيا؛ لتخفيف وطأة العنف والاعتداءات عليهن. كانت البطريركية العامة تتجه نحو النساء لاستغلالهم، في التصور السوري، فَقدُ المعيل يعني سَبي امرأته –واقعاً ومجازاً- وتسليمها والاعتداء على أطفالها. ورغم عدم كفاية العامل الديني في سوريا، التي تقع تحت عين النظام، لدفع الأرامل إلى زواجٍ ثانٍ مثلاً، إلا أن إيران والمشايخ العلويين حاولوا دفع الأرامل السوريّات إلى زواجٍ ثانٍ؛ لضرورة الإنجاب أولاً، ولتهيئة معيل قادر على حماية الأرملة ثانياً. فالأرملة تستدعي تعاطفاً، لا بالتأسيس لحمايتها ومنحها القوة لتعتمد على ذاتها، بل بتشجعيها على البحث عن معيل آخر؛ في صورة بطريركية خاصة بجزئية محددة. سطوة بطريركية كُلية، ومن دون أي دافع سوى تعويض جزء ليس بهامشي من المجتمع من الموت المجاني الذي أسسه النظام للجميع. 

ولسبب آخر تطفو قصص التحرش بالأرامل، أو حتى تعييرهن أكثر من غيرهن. التعيير والتطفل، هما الهامش الأوسع في مجتمع متخلف، نحو النساء المطلقات والأرامل، لا سيّما مع انهيار النظام السوري اقتصادياً، وتصاعد صعوبات العيش إلى الحد المُهين للكرامة الإنسانية؛ لينمو عندئذٍ قلق الذكورة، فالتصور الاجتماعي لشكل الإعالة ودفع الذكر لوظائفه المعهودة وعدم قدرته على تأمينها أو القيام بها، ونقل الذكر إلى حالة ارتيابية، بالتزامن مع استغلال الأرامل من قبل الجنوسة العامة الذكرية، وعدم قدرة الرجل على الزواج؛ كل ذلك كان سبباً في دفعه إلى محاولة تأمين منفذ لشهواته المضطربة من خلال أرملة يعرفها، مسوّغاً ذلك بتعويضه ما لديها من فقد؛ ليبدو منقذها، أو معوّضها الجنسي. معوضها البطل الذي صنعه مجتمع مضطرب جنسياً وقيمياً.

ضغط العلاقات غير المشرَّعة اجتماعياً، بالتزامن مع فقدان الحرب السورية عاطفتها أو أخلاقيتها أو رمزيتها، أو حتى قيمة المعاناة لمتضرريها، يجعل التحرش ومحاولات الاعتداء أمراً من السهل قبوله، او استساغته. نحن في غابة وحشية باعتراف ضمني بذلك. خصوصاً أن جند النظام وعائلاتهم، والعلويين عموماً، لا يميلون إلى تقديس الحرب منذ التدخل الروسي، وافتقاد آليات التحفيز الديني للعنف لديهم، أو حتى الخوف من المعارضة المسلحة التي اكتشفوا أن إيقافها أو بقاء سلاحها كان رهن قوى كبرى، وليس آلية ذاتية اجتماعية سورية. ولم يعد العلويون يشعرون بقيمة سترتد إليهم من جراء المشاركة في الحرب.

في مكانٍ آخر من حياة السوريين، تبدو مبادرات الحركات النسوية السورية أكثر نظرية، في مقابل الحركة النسوية العالمية، اعتماداً على نتائج تلك المبادرات التي لم تتجاوز مرحلة الشعارات الطفولية. فالتعبير عن فضائح ذكورية شخصية، والتقاط حالات فردية ذات منشأ اعتدائي ذكوري أيضاً، ليس بالأمر المجدي على أرض الواقع؛ إذ أنّه يبدو صراعاً جزئياً وصغيراً بالنسبة إلى نظام بطريركي متماسك قائم على العنف وتهميش الآخر. هناك عمل مضاعف لتمكين حقوق المرأة، لكنه يفتقر إلى العمل على الأسس الاجتماعية الراسخة التي يشترك فيها الرجل والمرأة في نظرية الحقوق والمواطنة. تبدو الحركات النسوية السورية من دون أي عمل حقيقيّ مؤثر لتمكين وجود المرأة وإيجاد حقوقها في عشوائية وقسوة الحرب. إن جزءاً كبيراً من الحرب كان حرباً على دور المرأة وعلى استخدامها وتسليعها. لا أعرف قيمة ما تبذله الحركات النسوية التي شاعت أعمالها وعلاقاتها في أوروبا، على حساب نحو مليون امرأة أرملة من دون أي حماية اجتماعية، أو حتى سياسية داخل سوريا أو على حدودها. عندئذٍ نسأل ما أهمية عمل الحركات النسوية المثقفة في ما يتعلّق بقضايا المرأة السورية والأرامل تحديداً؟

الأمر لا يتعلّق فقط بنقد الحركات النسوية السوريّة التي تجاهلت وأهملت أوضاع اللاجئات السوريات ممن لا يمتلكن معيلاً محايداً للعلاقة البطريركية العامة أو الخاصة، ولا تعويضاً مؤسساتياً قيمياً عادلاً، بل يتعلّق أيضاً بتحولها الرديء نحو نضال إلكتروني تافه يشبه نضال المعارضة السورية في الخارج. الشخصية السورية التي تبحث عن دعم وتصفيق، من دون أي تأثير في الواقع. في لبنان والأردن مثلاً، وفي أي مقابلة صحافية مع أرملة، تبدو الكارثة الحقيقية، في أنّ كل حديثها يتمحور حول التحرش بها من أصحاب العمل، فحتى الأولاد في مجتمع ذكوري يعتدون على أمهاتهم الأرامل! إنه بحث عن الرجولة السياقية الدارجة، وبحث متجذر عن العنف. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024