وما عاد للشِّعر جهة

روجيه عوطة

الإثنين 2018/03/05
في منتصف تسعينات القرن الماضي، لم يكن الإنترنت، بمطافه العربي، متطورا بعد، لكن هذا لم يمنع قاسم حداد من السعي إلى إطلاق موقع إلكتروني يكون معنياً بالشعر على مختلف شؤونه، كنشره، وتجميعه، وترجمته، ومقابلة صناعه للحديث فيه. بهذا، أسس حداد "جهة الشِّعر"، الذي، ومنذ العام 1996 حتى الأسبوع الماضي، كان لا يزال على قيد الحياة، قبل أن يتوقف، ويجري تعليق صفحة فيه، تشبه ورقة نعوَته. فالتجربة انتهت، وما عاد للشِّعر جهة، يركن اليها، أو يصدر عنها، والسبب هو غياب الدعم المالي. 

فعلياً، كل شيء تغير منذ إنطلاق "جهة الشِّعر". فالنوع الأدبي، الذي بشّر الموقع به، خسر حضوره ووطأته بعدما بلغ ذروتهما في سوق المطبوعات مع بداية الألفية الثالثة. كما أن قرّاءه، الذين كانوا يتعقبونه عبره، تبدلوا، إذ كانوا يأتون إلى الموقع اياه من الكتب والصحف، ولا يطلون عليه من مواقع أخرى، أي كانوا قرّاء قبل أن يكونوا متابعين. مثلما ان صناع الشِّعر، الذين طمحوا إلى ان يتضمن الموقع نصوصهم، ما عادوا مهتمين بما يوفره لهم، اي منصة كتابة لهم وإعلام عنهم، فها هم يهجرونه إلى مواقع أخرى، حيث بمقدورهم ان يجدوا منصاتهم المكتوبة والمرئية. ثم أنهم، وفي السياق عينه، اضمحلت رغبتهم في تأليف جماعة، لها مركزها، وهامشها، وصعلكتها، بل غدوا يمارسون شعرهم فرادى، قبل أن يكتشفوا فقدانه للزومه.

غير أن "جهة الشعر"، وبإستناده إلى الشبكة العنكبوتية لتشييد مكان للشعراء، لم يكن منقطعاً عن مآلهم، ومآل النوع الأدبي الذي يجهدون فيه. كان فاتحة هذين المآلين، ومسجلاً لهما قبل تحققهما. إذ إن انتقال الشِّعر إلى الإفتراض، كان بمثابة تمسك بدوره في زمن التحول الآتي من المطبوع إلى المفترض، وهو، ولما بدا مناسباً للأخير نتيجة شكله القصائدي، وجد محلاً فيه، بل إنه وصل إلى أوجه داخله، حيث إما توقف، أو تزايد، وفي الحالتين، شرع في الإنحسار بعد الرواج. لقد ارتكز "جهة الشعر" على لحظة محددة، مفادها توقع المقبل، الذي سيؤدي إلى تراجع المطبوع وتقدم المفترض، وبالتالي، دعا الشعراء إليه لإنقاذهم من انهيار الأول، وشق طريقاً لهم نحو الثاني. وليس صدفةً أنه، ولكي ينجز ذلك، استعان بنمط منهم، نمط أنتجته الصحافة الثقافية، أي الجريدة، فلا هي كتاب، ولا هي موقع، لكنها تتصل بهما من ناحيتي طبعها وميديويتها: الشاعر الصحافي.



أدخل "جهة الشعر" نوعه الأدبي إلى المفترض على متن إستطيقي منسجم ومقسم إلى خاناتٍ، تحمل عناوين غير مباشرةً في المقصد منها، بل إستعاراتية، وغالباً ما تدل على تصور بعينه عن الشعر، بحيث يبينه كضرب من ضروب الأسطرة (عربة النار، منسيات الآلهة، غبار الملائكة، وعجائب المخلوقات...). وعليه، قدم الموقع شعراءه كأنهم قريبون من الأنبياء، ليس لأنهم يبشرون بالشعر لدرجة تحويله في شهاداتهم عنه إلى مجرد وحي، وتصويت لحديث يخطر من غامض رباني فقط، بل لأنهم التقطوا علامة من إله جديد سيحضر بعد أفول إلههم القديم، علامة من إله الافتراضي بعد كسوف إله المطبوع أيضاً. لكنهم، في الواقع، لم يستوفوا هذه النبوة، بحيث أنهم انتقلوا من أرض إلى ثانية. لكنهم سرعان ما رجعوا أدراجهم من خلال الكلام عن "رائحة الورق" و"القراءة الورقية"، كأنهم كانوا رسل المطبوع أكثر منهم رسل الافتراضي.

بعد ذلك، عاشت "جهة الشعر" ما قدمته كنبوءة، أفرطت فيها، وحولت بعض "أنبيائها" إلى نجوم. وهم، كحال إلههم الآفل، غربوا، لا سيما بعدما تعددت المواقع الأدبية وتنوعت. إشارة إلى إنطفاء تلك النبوءة هو حرص "جهة الشعر" على تجميع مواقع من قبيله، تحتوي مجلات وكتب، إذ إنه كان في عقبه يحاول تكوين شبكة للصمود في الافتراضي إلى أن توقف، فالأرض التي نقل إليها الشعراء، اتسعت للغاية، وما عاد يجذب إلا قلة قليلة من سكانها. فثمة في ورقة النعوة التي نشرها "جهة الشعر" جملة "سوف يتوقف عن البث"، فلما وصل "جهة الشعر" إلى نهايته، لم يقفل كمطبوع، ولم يحتجب كموقع، بل انقطع كتلفزيون. لقد كان محطة شعرية قيمة، وقد رحل مشاهدوها عنها!
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024