السينما الوثائقية السورية: مِن الفضح إلى الذاتية

حسن الساحلي

الأربعاء 2017/12/06
ضمن فعاليات"لقاء مع فنان" (ملتقى مينا: محطات لقاء وعبور فنية)، قال الفنان السوري ميلاد أمين، إن طريقة عمله مع زملائه على فيلم "دوما أحبك"، كانت مختلفة عن السائد في المدينة المحاصرة منذ 5 سنوات. فقد قرروا كتابة السيناريو أولاً ثم تصوير الفيلم لاحقاً، عوضاً عن جمع مواد بصرية ثم محاولة نسج قصة منها. يضيف أمين أن أحداَ منهم لم يكن يعرف كيف يكتب سيناريو، بما أنه لا مدرسة للسينما في سوريا، وأن تلقيهم التدريب في وقت لاحق ساعدهم على القيام بذلك.


ما قاله الفنان عن السائد في مدينة دوما المحاصرة، يمكن أن ينطبق على السائد في سوريا منذ خمس سنوات. فولادة نمط فني جديد لم يكن عدد العاملين فيه بشكل إحترافي يتعدى أصابع اليدين، ترافق مع بداية الثورة السورية والإنفجار البصري الذي ارتكزت عليه مئات القصص والأفلام الوثائقية.

لا نقول هنا أن الحرب أطلقت نمطاً فنياً جديداً، كما درج القول في لبنان عن ولادة رواية جديدة مع بداية الحرب اللبنانية. بل هي ثورة استخدمت كل الوسائل المتاحة من أجل التعبير عن نفسها (لا سيما تحصيل الإعتراف بالمجازر وإدانة نظام الأسد وتوثيق الحصار المطبق على أبنائها) وقد ساهمت بشكل غير مباشر في ولادة سينما وثائقية ذات طابع سياسي وإنساني أولاً. هذا قبل تحول الثورة إلى حرب أهلية، وخروج السوريين من سوريا وبدء مسارات جديدة للفن المستجد: توثيق اللجوء ورحلاته، توثيق الحياة في المخيمات، توثيق الحياة تحت حكم المنظمات الإسلامية التي تحولت بدورها إلى موضوع أيضاً، توثيق المنفى والعلاقات الجديدة مع الوطن والأرض.

كما خرجت الوثائقية الجديدة من النمطية الفنية التي اتسمت بها في البداية: استعمال الهاتف، حركة الكاميرا المستمرة وما تحدث عنه أمين من عدم إحترافية وقلب للمنطق الإنتاجي، إلى سينما وثائقية جديدة ذات مستوى أعلى، تتبع مراحل الإنتاج، وتتشعب إلى أنماط فرعية: درامي، خيالي-توثيقي، تحقيق ميداني، أرشيف، وقسم كبير منها بطابع ذاتي، يأتي كتلبيةً لسائد إنتاجي يفضل منحى سردياً، ومختلفاً عن الإنتاج التلفزيوني التقليدي.

الأعمال الفنية التي عُرضت مقاطع منها خلال اللقاء مع الفنانين المدعومين من "إتجاهات"، يمكن أن تكون نماذج عن هذه السينما الوثائقية الجديدة، خصوصاً أنها تتبع القواعد الإنتاجية المعروفة، وتتعامل بشكل عام مع فنانين محترفين. فبالإضافة إلى "دوما أحبك" الذي عُرضت مقتطفات منه، قُدّمت نماذج من أعمال وثائقية أخرى، غير منجزة، وجزء كبير منها ذاتي الطابع.


لكن الاختلافات بين تلك الأفلام، تتمثل في طريقة فهم كل منها لعمل الكاميرا وموقعها ضمن السياق السردي. تحاول أكثرية قصص "دوما أحبك" تقديم توثيق درامي بديل عن وثائقية الفضح المتبعة منذ سقوط النظام في المدينة في العام 2012. في إحدى القصص، توضع الكاميرا مكان الشخصية الرئيسية POV، لمعرفة وجهة نظر شخص يختبر شعور Deja vu عندما يتعرض أحد الشوارع للقصف. كما تتابع الكاميرا رحلة رغيف، من الحقل حتى وصوله إلى المنزل، ومن يعرف العيش في دوما، يفهم صعوبة هذه المهمة.

أما الفلسطينية السورية لينا العبد، صاحبة مشروع فيلم يحاول البحث في اختفاء والدها في العام 1987، فقد وظفت الكاميرا في البداية من أجل توثيق تحقيقها في هذا الإختفاء. تدخل مخيماً فلسطينياً لتسأل أفراد التنظيم الذي كان والدها عضواً فيه. ما اسم والدك؟ إبراهيم العبد. يسمونه رشيد وأحياناً أبو إياد. مواصفاته: أقصر مني، مربوع، وأبيضاني. يقول الرجل إنه يعرفه، لكنهم لم يسمعوا أخباره منذ ذهابه إلى ليبيا. تتابع البحث، فيعطيها شخص آخر معلومات متناقضة، لكنها تفرح عندما تلتقي من يعرفه .. "حتى لو كان مسؤولاً للإعدامات في التنظيم".

تعطي الكاميرا انطباعاً بأن العمل أقرب إلى التحقيق التلفزيوني الذي يتألف فريقه في العادة من مصوّر، فتاة، وكثير من الأسئلة. لكن المخرجة ليست مذيعة تلفزيونية، والتحقيق الذي تعمل عليه غير قادر على توجيه الإتهام لأحد، كما أنه غير قادر على الإمسكاك بالحقيقية المجردة التي يقدمها التلفزيون. فتتحول الكاميرا نحوها، وتصبح المخرجة هي الموضوع.

إلا أن الموضوع ليكون نفسه، موثقاً على حقيقته، فعلى الكاميرا ألا تشعره بوجودها، فتحاول العبد إخفاءها. تظهر في أحد المشاهد وهي تنظف السمك مع والدتها، وفي آخر تمشي في الغرفة وهي تدندن أغنيةً بصوت منخفض، وهي كلها أفعال لا يقوم بها الناس أمام كاميرا يعون وجودها. ثم تبدأ رحلتها إلى الذات، من بيروت إلى سوريا، الأردن، ألمانيا وفلسطين، حيث تشتت أقاربها بعد الحرب السورية، وحيث أصبحت الذات هوية "فلسطينية سورية" منفية مرتين. يتابع المشروع ذلك التشتت الذي يطبع في كل بلد بخصوصية معينة. تسأل أقاربها الأطفال: أين هو وطنك؟ يجيب الأول دُبي، أما الثاني فيجيب فلسطين.

لا تسائل العبد موقع الكاميرا بالنسبة للمسارات التي قررت خوضها، بقدر فيلم وائل قدلو "طريق البيت"، الذي يضمر السؤال التالي: لماذا تحولت أنا إلى موضوع؟ ومَن الذي أعرّي نفسي وذاتي أمامه؟

يسرد العمل قصة المخرج الشخصية، وقصة عائلته والمكان الذي يعيش فيه. المشهد الأول يبدأ مع والدته التي تخبره أنه شخص يشبهها وتحبه، إلا أن هذا الحب لا يوازي ما تكنه لإخوته. نعرف لاحقاً أنه تربى على يدَي جدته، وبأن وجوده في الحياة أتى نتيجة علاقة فاشلة وكان سبباً لصراع بين عائلة والده وعائلة والدته، لم يخفت سوى عند إصابته بمرض السرطان الذي استطاع النجاة منه مرتين.

عند  اندلاع الثورة السورية في العام 2011، انتقل المخرج إلى لبنان وهو معبأ فكرياً وعاطفياً، وقد سمحت له تلك "المسافة العاطفية والفكرية"، برؤية أزماته بشكل جديد. في شرحه عن الفيلم يقول: يسعى هذا الفيلم إلى محاولة فهم حروبنا (العائلية – الأهلية) وكيف نستخدم فيها أنفسنا كأداة عقاب وانتقام من بعضنا البعض. يؤكد المخرج أنه وعائلته ليسوا سوى عينة من المجتمع السوري الأكبر، وبأن سرد قصته يمكن أن يعطي فكرة واضحة عن علاقات السلطة التي تحكم البلاد والمجتمع.


تأخذ ذاتية قدلو هنا بُعداً جديداً، فهي ذاتية واعية ومُفكَّر فيها، ويحاول من خلالها: "التفتيش عن السبل التي يمكن أن نسلكها نحو المصالحة بعيداً من الخراب". في أحد المَشاهد، يركب الكاميرا في باحة منزله الدمشقي، من أجل توثيق جلسة عائلية. الكاميرا لا تلبث أن تقع مراراً، ويضطر إلى تركيبها من جديد، ثم في أحد المَشاهد تقع كلياً على الأرض ولا أحد يحرك ساكناً لالتقاطها.

في مشهد آخر، يعري نفسه أمامها. يجلس في منتصف باحة منزله الدمشقي بلا ثياب، ويبدأ بسكب الماء ببطء على نفسه. يضع قدلو ذاته العارية أمام عيون المشاهدين، وهي نفسها التي يحاول من خلالها إيجاد سبيل للمصالحة بين أهله، وبالتالي بين أهالي المجتمع السوري الأكبر، الذي يقف عارياً بدوره أمام عيون العالم، منتظراً من سينقذه من الخراب. الموقف أيضاً ينطوي على عقاب للذات، التي تُحمَّل عبء الصراع الأهلي، والكاميرا التي وثقت ذلك الصراع على مدى السنوات الماضية، تحاول إيجاد حل له اليوم من خلال قصص ذاتية، إلا أنها لا تلبث أن تقع كل حين.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024