المومياوات الملكية.. ما الجديد في "مؤامرة الحريم" والبلاط؟

أسامة فاروق

الأربعاء 2021/04/28
تسلّم رمسيس الثالث، حكم مصر، بعد عهود من الارتباك السياسي، وخاض على مدار فترة حكمه التي دامت 32 عاماً، عدداً كبيراً من المعارك البارزة، وأمضى سنواته الأولى منشغلاً بإرساء الوضع السياسي الداخلي المرتبك في مصر. بنى معبده الجنائزي الكبير في مدينة "هابو" (الأقصر-صعيد مصر) وملأ صروحه بسجلات انتصاراته العسكرية ضد الليبيين وشعوب البحر، الذين احتشدوا ضد مصر نتيجة الاضطرابات التي سادت المنطقة. لكن، نتيجة تلك الحروب التي خاضها الملك ضد الغزاة، تفاقم الوضع الاقتصادي للبلاد، وتشير برديات تلك الفترة إلى أول إضراب عمالي مسجل قام به الحرفيون الملكيون في منطقة دير المدينة بسبب حرمانهم من أجورهم.

وقع رمسيس الثالث أيضاً ضحية مؤامرة دبرتها زوجته "تي" من أجل إزاحته عن الحكم وتنصيب ابنها "بينتاؤور" على العرش. وتحكي البرديات عن "مؤامرة الحريم" أبرز مؤامرات العصر القديم، التي شارك فيها العديد من الضباط، وأفراد من بلاط الحريم الملكي ومسؤولو المحكمة العليا، لكن البرديات التي سجلت محاكمات المتآمرين لا توضح إن كانت المؤامرة قد نجحت أم لا، فظلت الحكاية عالقة إلى أن أظهرت صور الأشعة المقطعية التي أجراها مشروع دراسة المومياوات المصري مؤخراً، معلومات جديدة يمكن من خلاها إعادة ربط أجزاء الحكاية، وكتابة فصول جديدة فيها، حيث أظهرت الدراسة أن حلق الملك قد قطع من الخلف، وأنه ربما ذبح وهو جالس، كما أكد تحليل الحمض النووي أن "المومياء الصارخة" التي عثر عليها في الدير البحري كانت لابن الملك رمسيس الثالث والذي قد يكون هو نفسه الأمير "بينتاؤور"!

بداية الرحلة
عانت البلاد، الجفاف والمجاعة والاضطرابات الداخلية، على مدار السنوات الثمانين التالية لوفاة الملك رمسيس الثالث، وتسارع سقوط الدولة الحديثة، حتى وصل الأمر إلى حد نهب مقابر الملوك، ومن هنا بدأت الرحلة الحقيقية للمومياوات الملكية. رحلة معاناة رُويت تفاصيلها كاملة في كتاب صدر بالتزامن مع عملية النقل وافتتاح متحف الحضارة، مطلع الشهر الجاري، وربما لم ينتبه إليه أحد في زحمة الاحتفال. "المومياوات الملكية ومرقدها الأخير" أعده زاهي حواس وآخرون، ككتالوغ يوثق رحلات المومياوات الملكية منذ الدفن حتى العرض في متحف الحضارة، وهى رحلة طويلة جداً مليئة بالتفاصيل المدهشة، بدأت بانتقالها أثناء العصور القديمة من مقابرها الأصلية في وادي الملوك بالأقصر إلى مجموعة خبايا قريبة، وبعد آلاف السنين نقلت إلى القاهرة، وهناك انتقلت من متحف بولاق إلى المتحف المصري بالتحرير، ثم أخيراً إلى متحف الحضارة في مصر القديمة.

كانت مقبرة الملك "توت عنخ آمون"، هي المقبرة الملكية الوحيدة تقريباً التي عُثر عليها كاملة في الوادي الشرقي لوادي الملوك، تمكنتْ شرطة المقابر في العصور القديمة من إنقاذها مرتين، ثم أنقذها النسيان بعد ذلك، فبحلول عصر الملك "رمسيس الخامس"، أصبح توت عنخ آمون في طي النسيان، وحجب مدخل مقبرته بأكواخ العمال الذين قاموا ببناء مقبرة الملك الجديد. تفاقم السرقات دفع بالسلطات الموجودة وقتها في طيبة، إلى اتخاذ قرار نقل المومياوات الملكية إلى مقابر جديدة لحمايتها، مع أنهم أزالوا الذهب وغيره من القطع الثمينة من التوابيت الملكية لإعادة استخدامها من قبل الحكام الجدد!

لم تستقر جميع المومياوات في خبيئة واحدة. أُخذت مومياء الملكة حتشبسوت مثلاً، من مقبرتها الخاصة، ووضعت في خبيئة قريبة تخص مُرضعتها، كما تم إخفاء مومياء الملك سيتي الأول أولاً في مقبرة والده رمسيس الأول، قبل أن تُنقل في نهاية المطاف مع مومياوات أخرى إلى خبيئة جديدة. كما تشير برديات إلى نقل بعض المومياوات مؤقتاً إلى مقبرة تدعى "إن حابي" وهي مقبرة غامضة ما زال موقعها غير معروف حتى الآن.

اكتُشفت خبيئتان من خبايا الإنقاذ التي أعدها مسؤولو الأسرة الحادية والعشرين في البر الغربي في الأقصر. الأولى وجدت في واد سري إلى الجنوب مباشرة من معابد الدير البحري، وعُثر عليها العام 1871 من قبل عائلة عبد الرسول الشهيرة التي أبقت عمليه البحث سرية لمدة عشر سنوات تقريباً حتى العام 1881، وكانوا قد أفرغوا خلالها المقبرة من القطع الفريدة. وحين دخلها رجال مصلحة الآثار، وجدوا مومياوات 10 ملوك وعدداً من الملكات والأطفال الملكيين، ونُقلتْ مع ما تبقى من الكنوز إلى القاهرة. أما الخبيئة الملكية الثانية، فعثر عليها العام 1898، المستكشفُ الفرنسي فيكتور لوريه الذي أخفى 14 مومياء، 10 منها لملوك داخل مقبرة الملك أمنحتب الثاني.

مواكب قديمة
بعد هذا الاكتشاف، أخذ لوريه إذناً من فخري باشا، وزير الأشغال العامة والمسؤول عن مصلحة الآثار، لنقل المومياوات إلى القاهرة، إذ اعتقد أنها لن تكون آمنة لو بقيت في المقبرة بالأقصر. ورغم حصوله على الإذن، وقيامه بالفعل بتعبئة المومياوات في صناديق وحملها على القارب الخاص في مصلحة الآثار، يؤكد الكتاب أن عملية النقل لم تتم، إذ صدر أمر بإعادتها إلى الوادي مرة أخرى، "يبدو أن أحد علماء المصريات العظام في ذلك الوقت –السير فليندرزبترى- الذي لم ينسجم مع لوريه، رأى أنه سيكون من الأفضل ترك المومياوات داخل المقبرة". وعندما تولى ماسبيرو مصلحة الآثار، في يناير 1890، كان قد تم نقل 9 مومياوات من تلك المقبرة إلى القاهرة، تحت إشراف مفتش الآثار الشاب وقتها هوارد كارتر، وعندما أصبح كارتر نفسه كبير مفتشي الآثار العام 1900، سمح بعرض مومياء أمنحتب الثاني داخل مقبرته. وبعد عام من محاولة مسلحين نهب مقبرة الأقصر، قررت مصلحة الآثار أن مومياء الملك ستكون أكثر أمانا في القاهرة، فرتب كارتر عملية النقل لينضم الملك أخيراً إلى عائلته في القاهرة.



لم تتوقف الرحلة عند هذا الحد، فيقول الكتاب إنه في نوفمبر 1882، تم تمويل متحف بولاق لبناء المزيد من الصالات لعرض المومياوات الملكية التي وصلتْ من الأقصر، لكن، ولأن المتحف كان عُرضة للفيضانات في ذلك الوقت، اتُخذ قرار بنقل جميع القطع الأثرية، بما فيها المومياوات الملكية، إلى أحد القصور بالجيزة. ويؤكد مؤرخون، أنه في العام 1931، وبعد عام على الانقلاب الدستوري الذي قام به الملك فؤاد مع رئيس الوزراء إسماعيل صدقي وحل البرلمان واعتقال المعارضين، قرر إسماعيل صدقي الانتقام من سعد زغلول قائد الثورة وأول رئيس وزراء ينتخب ديموقراطياً في مصر، فأمر بنقل المومياوات إلى ضريح سعد زغلول لتُدفن بجواره، وتم ذلك على عربات "كارو". وفي العام 1935، قامت تظاهرات ضخمة، وسقطت وزارة صدقي وعاد دستور 1923، وعادت المومياوات مجدداً إلى متحف التحرير بالطريقة نفسها... هذه المعلومات أكدها الكاتب والمؤرخ محمد أبو الغار، لكن الكتاب الجديد لا يذكر شيئاً عن ذلك، بل يقول إنه المومياوات الملكية لم تُعرض بالفعل سوى في العام 1958، عندما تم توسيع المتحف المصري بالتحرير، ما سمح بنقلها وعرضها جميعاً في قاعة واحدة. لكن ذلك لم يستمر طويلاً، ففي العام 1980، أمر الرئيس السادات بإغلاق قاعة المومياوات، وبدأ الجدل حول ما إذا كان يجب إعادة المومياوات إلى مقابرها أم إبقاؤها في المتحف مع تغطية وجوهها! وظلت القاعة مغلقة حتى 1989 حتى أعيد افتتاحها مجدداً مع تزويدها بوسائل إضاءة أفضل وطرق عرض أكثر حداثة. وفي 2002 أضيفت لها قاعة أخرى، وفي 2019 اتُخذ قرار بنقلها إلى متحف الحضارة بالفسطاط، ونقلت في الحفلة الشهيرة التي أقيمت مؤخراً.



بدانة وسكري وتصلب شرايين
الكتاب لا يحكي رحلة المومياوات الملكية فقط، بل يقدّم كذلك فصولاً حول التحنيط وتطوره في مصر القديمة، كما أنه يقدم، للمرة الأولى تقريباً، نتائج البحوث والدراسات العلمية التي أجريت على المومياوات بعد فحصها بأجهزة الأشعة الحديثة، مضيفاً الكثير من المعلومات الجديدة حول التاريخ المَرَضي لملوك الفراعنة، ليملأ فراغات مهمة في تاريخهم. فنعرف مثلاً أن جسد الملك "سقنن رع" كان في حالة سيئة جداً حين تم اكتشافه، حيث تتضح علامات العنف على جبهة الملك، بالتحديد جرح فأس على جبهته وكذلك إصابات عديدة على خده وأنفه، إضافة إلى ستة جروح عميقة تشمل الأنسجة والعظام، وهو ما يدل على أن الملك قد تعرّض لهجوم بمجموعة مختلفة من الأسلحة... حللت الدراسات السابقة الكسور في جمجمة الملك، بالإضافة إلى كسور الأنف وتجويف العين والفك، ووصلت إلى أن الضربات التي تلقاها، تدلّ على أنه ربما كان في حالة حركة وأن المهاجمين جاؤوا من اتجاهات مختلفة، وأنه ربما مات أثناء القتال... ويعتقد العديد من العلماء أن أشكال بعض الجروح تتطابق مع فؤوس المعارك التي استخدمها الهكسوس آنذاك، لكن تحليل فحص الأشعة الذي قامت به د.سحر سليم، يقدم نتائج مختلفة إذ تقول إن إصابات الوجه المكتسبة في القتال عادة ما تقترن بكسور في الساعدين، كردّ فعل طبيعي لحركة الذراعين لحماية الوجه، ومع ذلك كان ساعدا الملك سقنن رع غير مصابتين إطلاقاً، لكن يديه كانتا مشوهتين بطريقة تشير إلى أنه تم ربطهما عند الرسغين خلف الجسم لبعض الوقت "وربما يشير ذلك إلى أنه كان أسيراً وأُعدم من قبل خصومه الهكسوس".



حتشبسوت بدينة
أثبتت الدراسة أيضاً أن الملكة حتشبسوت عانت مشكلات في الأسنان، كما عانت من "خرّاج" خطير في فمها، بل يبدو أنها أصيبت أيضاً بورم سرطاني يظهر، بحسب الدراسة، في الجزء الأيسر من الفخذ. وأشار الفحص الجسدي والأشعة المقطعية، أنها كانت بدينة، كما أصيبت بمرض السكرى بالإضافة إلى مشكلات صحية أخرى. بينما عانى رمسيس الخامس من الجدري، ورجحت الدراسة أنه ربما يكون سبب وفاته، كما لوحظ وجود جرح في الفخذ اليمنى يحتمل أن يكون تشخيصاً للطاعون.

أما رمسيس الثاني فتؤكد الدراسة أنه عانى من تصلب الشرايين وتجعد بشرة الوجه، كما أنه كان مصاباً بالتهاب حاد في مفاصل الفخذ والساقين مما صعب عملية المشي.... وأشارت نتائج الأشعة المقطعية أنه كان لديه حدب كبير واعوجاج في العمود الفقري، والغريب هو فقد المومياء للأعضاء التناسلية، ولم تحدد الدراسة إن كان ذلك نتيجة علمية التحنيط، أم كانت نتيجة لهجمات لصوص المقابر. ومن المعروف أن الملك رمسيس الثاني كانت لديه زوجات كثيرات وأنجب حوالى مئة طفل. وتقول الدراسة أيضاً إن الملك عانى أيضاً من خراج خطير في أسنانه ربما عجل في موته، مدللة بذلك على أن وفاته طبيعة، وبالتالي لا دليل يدعم النظرية القائلة بأنه فرعون الخروج!

اللصوص القدماء
بعضهم لم تنته معاناته حتى بعد الموت، فمومياء الملك رمسيس السادس مثلاً عثر عليها "ممزقة إرباً" بسبب هجمات لصوص المقابر، وقام المسؤولون عن إعادة الدفن باستخدام ألواح خشبية لربط الأجزاء معاً، لكنهم أعادوا بعض العظام في أماكن خاطئة حيث تم وضع الحوض مكان الرقبة! كما كانت هناك أجزاء مفقودة بالإضافة إلى العثور–ضمن لفائف الملك- على أجزاء تنتمي لآخرين منها اليد اليمنى لامرأة! الأشعة كشفت أيضاً أن مومياء أمنحتب الأول، عانت إصابات متعددة بعد الموت، إذ كُسرت يداه والجزء السفلى من الذراع الأيمن، بينما كان الساعد الأيسر مفصولاً من الكوع... تكررت أمور مماثلة مع تحتمس الثاني، وتحتمس الثالث الذي فُصل رأسه وأطرافه ووصل الضرر الذي ألحقه اللصوص القدماء بالجسد إلى درجة أن الكهنة اضطروا إلى استخدام مجاديف خشبية كجبائر، ورغم هذا كله تشير الدراسات الإشعاعية إلى سِوارين معدنيين ربما كانا من الذهب ما زالا في الساعد الأيمن للمومياء!

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024