"إسمي جوليا":يحيى جابر يرسّخ مسرحه مع أنجو ريحان الرهيبة

يوسف بزي

الجمعة 2016/09/23
تبدأ مساء الأحد 25 أيلول الجاريي، في "تياترو فردان" (بيروت)، عروض مسرحية "إسمي جوليا". والعمل من كتابة وإخراج يحيى جابر، وأداء مونودرامي للممثلة اللبنانية أنجو ريحان.

في طوره المسرحي الثاني، المبتدئ مع "بيروت - الطريق الجديدة" و"بيروت فوق الشجرة" (تمثيل زياد عيتاني)، ثم الآن مع "اسمي جوليا"، لا يفارق جابر هذه الجغرافيا الانسانية المكتظة بحكايا التحولات والانقلابات المؤلمة لأجيال عديدة، محشورة في الفوضى والحروب والذاكرات الفائضة بالأوجاع... ومحشورة أيضاً بطوائفها وأهلها ونزاعات جماعاتها في وطن مضطرب أبداً. مسرح يتحول إلى مرآة مصقولة يتفرج الجمهور فيها على نفسه، على دواخله، على وجعه، كفعل تطهر وتخفف ومكاشفة، لا يتجرأ عليها لوحده، فيتنكب يحيى جابر ومسرحه هذه المهمة بكثير من التعاطف والتفهم، لكن أيضاً بشجاعة الإدانة والاتهام والمصارحة.

بهذا المعنى، قد نكون أمام مسرح سياسي واضح. لكن ثمة صيغة "كتابية" لدى يحيى جابر تجعل "السياسة"، على غير معناها التقني البحت. فهي هنا تتخلى عن الخطاب والأفكار، وتعانق الوقائع الجارية والمتلاطمة في دواخل الأحياء والضواحي وفي قيعان المدينة، والمستعادة من ذاكرة جمعية أو ذاكرات فردية تتقاطع على تاريخ مشترك ومعيوش وغير منصرم. هي صيغة تلتقط سرديات الناس والعائلات و"الأبطال" الفرادى الذين يتحولون إلى شهود ورواة، تترافد أصواتها في بوح متواصل، يحبكه يحيى جابر في خيط واحد، في كتابة تبدو دوماً عفوية وشفوية وتلقائية، بالرغم من تعقيدها الدرامي وكثافتها التعبيرية، ورشاقة إيقاعها.

في هذا المذهب من التأليف المسرحي، في قصده ودوافعه، يحاول يحيى جابر "تعريف" اللبنانيين بأنفسهم، إنه يقر لهم بهوياتهم المختلفة، بمنعزلاتهم السكانية والجغرافية، بأساطيرهم الأهلية الخاصة، بأوهام هوياتهم وتهويمات "الخصوصية" لكل جماعة منهم. يقرّ بما هم عليه، بثقافاتهم الدينية والاجتماعية وولاءاتهم ونوازعهم الكثيرة. لكنه حين يفعل ذلك، يبدأ بتفكيك كل "الأفكار المسبقة" عن أي جماعة أو طائفة، تلك التي روّجتها إما الجماعات الأخرى، أو روّجتها المنظومة الثقافية والأيديولوجية والإعلامية، المتعالية كذباً ونفاقاً على كل الجماعات. أي أنه مسرح يكرس نفسه لكسر الأفكار النمطية ورفض كل تنميط يحبس هذه الطائفة أو تلك في قفص من الصور الجاهزة، التي هي حكماً صور تضمر الازدراء والضغينة وسوء الفهم.

فإذا كانت حكايات "الطريق الجديدة" تقول شكوى البيارتة المسلمين السنّة وذاكرتهم وحساسيتهم ولهجتهم، وإذا كانت "بيروت فوق الشجرة" تروي تلك اللحظات من عصر ذهبي لعاصمة تعاشقت فيها الهويات والأديان بقدر هائل من التسامح الكوزموبوليتي، كما لو أنها فيلم سينمائي رومانسي، فإن "إسمي جوليا" تقتحم عالم الضاحية الشيعية وامتدادها في الريف الجنوبي.
هنا، التوليفة الحميمة في مسرح يحيى جابر بالارتكاز على سيرة فردية تتفتح تلقائياً على سير الأهل والبلد، ما زالت هي نفسها، وقد ازدادت كثافة ودقة وانتباهاً للبعد السيكولوجي. هي نفسها التوليفة المفعمة بالعاطفة والحب والكوميديا الذكية، وقد ارتقت إلى شبهة تراجيدية تتوازى فيها لحظة الابتسامة مع لحظة طفرة الدمعة. الضحكة المخنوقة بشهقة الحزن.

سحر إضافي في "إسمي جوليا"، حيث يتضافر في النص، على نحو مفاجئ، سياق يتصل بالضاحية والجنوب والاجتماع الشيعي من جهة، وسياق يتصل بالمرأة ووعيها الجندري وصدامها الشقي بالسلطة الذكورية من جهة ثانية. هذا التركيب، يمنح العمل بعداً أشد عاطفية، بأنثويته وبولوجه الوقور إلى "الداخل" الخطر للمشاعر والأحاسيس والغرائز والحقائق البيولوجية، المحاصرة برقابة الأهل وأخلاقيات الجماعة.

على مستوى آخر، يمكن القول بثقة ان يحيى جابر يكرّس في عمله هذا اقتراحه الصعب نحو مسرح يتجاوز الفكرة النمطية عن المسرح الشعبي والكوميدي، ويستثمر ما اختمر من إرث المسرح الطليعي، فيشبك ذاك التجاوز مع هذا الاستثمار، على خشبة مونودرامية متقشفة، وصارمة بشروط اكتمال الفرجة والأداء والإيقاع والإخراج.

وعندما تحدثنا عن سحر إضافي، فهذا مردّه أولاً، أداء أنجو ريحان، التي تحتل المنصة وحدها بشراسة تمثيلية وطاقة فائضة على الحركة والتحول والتجسيد والحضور. هذه الممثلة النحيلة والخفرة، ذات الوجه الدقيق، التي عرفناها ببساطة الأداء التلفزيوني، المرتجل واللطيف، تتحول هنا إلى "سيدة خشبة مسرح" رهيبة، وفتاكة. مع هذا العمل تنتقل ريحان، بلا شك، إلى طور جديد كلياً في سيرتها التمثيلية. هذا ما يذكرنا بأهمية المسرح (فن المسرح) كمختبر لتطوير تقنيات الممثل وصقل تجربته، بقسوة مضنية حتى الإنهاك. فالتمرين المكثف والإخلاص العنيد عند هذه الممثلة، وتفانيها، جعلاها تبدو في المحصلة وكأنها كانت تتسلق جبلاً، طالما أنها هنا على الخشبة تؤدي "أدوارها" الكثيرة كأنها في الذروة.

قلنا أدوارها، لأن يحيى جابر رمى في وجه أنجو ريحان حوالى 13 شخصية، معظمها لنساء وبعضها لرجال، وكان عليها أن تحملها (والأهم أن تجيدها، أن تصوغ صورتها تمثيلياً) وأن تؤديها في اللحظة الواحدة، أن تذهب وتعود من وإلى شخصياتها الكثيرة، على مرجعية الشخصية المحورية "جوليا" بكل تحولاتها العمرية: الفتاة الصغيرة، فالمراهقة، فالعشيقة، فالزوجة والأم والمريضة أخيراً بسرطان الثدي، ثم الناجية بكيانها وروحها الحرة. أصلاً "جوليا" هي نفسها شخصيات كثيرة، فهي البنت المتشبهة بالصبيان، هي المراهقة النزقة التي تستكشف أنوثتها، هي إبنة الضاحية الخارجة إلى مثالات المدينة لباساً وسلوكاً وذهاباً بالمايوه إلى البحر، مرتدية الشورت، هي أيضاً التي تصير محجبة، ثم العاشقة الخاضعة، فالزوجة التي تبدأ تمردها ووعيها النسوي، فقرارها بخلع الحجاب، وصولاً إلى مواجهة السرطان الذي إن لم يقتلها فهو قد يسرق أنوثتها.

كان على أنجو ريحان أن تكون أيضاً لكنات ونبرات وأجسام شخصياتها، أن تمارس هذا "الميتامورفوز" الفيزيولوجي والتعبيري لكل شخصية في اللحظة الواحدة، فتكون زوجها "حسين" وهي"جوليا" في لحظة شجار لفظي، أو "جوليا" وأمها "إنصاف" بخناقة عائلية، أو "إيمان" الفلسطينية والجارة "ميمي" والأخ "عباس" والطبيب والممرضة والجارة وأخوات الزوج والقريبة اليتيمة وصاحب الدكان والأب وأم الزوج.. إلخ. ساعتان من حشد ممثلين وحكايات في جسد أنجو ريحان إلى حد الاستنفاد.. المتألق.

عدا الكرسي الوحيد في منتصف المسرح، تستعين ريحان (بتدبير بارع من المخرج) بشال أحمر، هو بدوره يقوم بـ"تحولاته" التمثيلية، من وشاح إلى حجاب، إلى بطن حامل، إلى جنين مجهض ومدمى، إلى جسد الحبيب في لحظة ممارسة الحب، إلى ممسحة، إلى كفن، إلى كتلة السرطان، إلى شبح، أو فستان أو حبل..إلخ. هكذا يبتكر يحيى جابر سينوغرافيا باذخة من عنصر واحد (الشال) لتستثمره أنجو ريحان بمرونة فائقة.

مسرحية فائرة بديناميكية الحياة التي تعتمل في الضاحية (برج البراجنة) وأهلها الجنوبيين، لكنها أولاً هي عمل ينحاز لحساسية نسائية، بلا تنظير نسوي. لا نقول أنها "تفضح" الادعاء الذكوري وسلطته، لكنها تفكك بهدوء، وتكشف هشاشة ذاك الادعاء وخوائه، خصوصاً داخل مجتمع صورته النمطية الأولى هي "فائض العضلات"، في مفارقة مسرحية، هي "ضربة معلّم".  
   
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024