الثعبان اللبناني.. يلتهم ذيله؟

رشا الأطرش

الخميس 2019/03/14
.. وقد اهتدى النظام اللبناني إلى لعبة جديدة. ظاهرها إصلاح نفسه بنفسه. الظاهر، الواضح رياؤه وتناقضه لأي طفل يسير مع أمه في الشارع. وباطنها إعادة إنتاج ذاته على أسس مغايرة، منسجمة مع اللحظة المحلية والإقليمية والدولية، وتواكب التحديات المطروحة على مراكز القوى. وهو الباطن الذي يفهمه الجميع، من المواطن الأقل حيلة إلى الأحزاب والطوائف والجماعات برؤوسها المكرسة، مثل نكتة سمجة تفرض على الواقع فرضاً. 

الكل الآن يكافح الفساد، رغم أن الكل متورط فيه: المحسوبيات والرشى والزبائنية. وكأنما يمكن التصديق بأن الثعبان قد يلتهم ذيله. فهو السيستم اللبناني، القائم أصلاً على المحاصصة الطائفية، ومن ثم على تحالفات تُنسج، ليس بناء على برنامج أو حتى إيديولوجيا، بل على ما يمكن استشرافه من منافع متبادلة حالما تتحقق له السلطة أو جزء معتبر منها، ليجري تقاسم منافعها، من وزارات وصفقات وتعيينات ودعم التصويت المتبادل في القضايا "الوطنية" الكبرى. وليس أقل النماذج، تقارب "المستقبل" و"التيار الوطني الحر" بأثر من ملف النفط، ومن قبله تقارب "التيار" و"حزب الله" بأثر من رغبة الأول في حصة أكبر لم يقدمها له تحالف 14 آذار، ورغبة الثاني في كسر عزلته الطائفية والسياسية والدولية، والتي أزعجته وحدّت من حركته مهما استقوى بعددية جمهوره وسلاحه غير الشرعي. وهكذا كان، غطى "حزب الله" بالأعلام البرتقالية حربه مع إسرائيل في تموز 2006، وفتحَ سمسمُ إعادة الإعمار مغارةَ الضاحية أمام علي باباسيل. والأمثلة المشابهة كثيرة، وتُطاول الجميع.

اليوم، تحل ذكرى تظاهرة 14 آذار2005، ويجد واحدنا نفسه متذكراً الكثير معها.

اليوم، يحارب "حزب الله" الفساد على طريقته، بتطويق سعد الحريري و"المستقبل" بحبال فؤاد السنيورة، ولأن مؤتمر "سيدر" لا يؤاتي أجندته المالية والأمنية والإدارية التي تنفر من الرقابة الدولية نفور الزيت من الماء. يحارب "كوتا" التعيينات في الأجهزة الأمنية، وله أجهزته الأمنية الخاصة التي لا صوت يعلو فوق أصواتها وأراضيها. فإذا اشترط المستثمرون الإصلاح والمحاسبة والشفافية، فليكن الإصلاح الإلهي ولتكن شفافيته، و"التيار" جاهز للدعم، بالإعلام ومن المنابر.. لتطيير المشاريع والحفاظ على الستاتيكو في النفايات والماء والكهرباء، خصوصاً صلاحيات وزير(ة) الطاقة في مقابل صلاحيات الهيئة الناظمة. وإذا كانت مشاريع "سيدر" ليست بالضرورة مثالية للبنان، فإن بدائلها في جعبة الحزب وحلفائه مرعبة في أقل وصف. والمحكمة الدولية لم تنته، والقرار ربما اقترب، والمتهمون لم يُسلَّموا، وملفات تبييض الأموال والإفلاس وكارتيلات المخدرات العابرة للقارات ليست فساداً عاماً، بل شأناً خاصاً.. لا شأن للبنانيين به.

كيف يصدق، حتى السذّج، أن الأقطاب اللبنانيين يحاربون الفساد؟ أن الماكينة السياسية اللبنانية فيها زر تنظيف ذاتي، هو نفسه زر تعطيلها؟ أن المفترس قد يختار بتر أطرافه بنفسه، منحازاً لإقعاده عن غنائمه؟ لا سذّج في لبنان. هناك فقط المستفيدون، الانتهازيون، والعاجزون إلا بألسنتهم.

اليوم، الفساد. واليوم أيضاً، أصبح ملف المونسنيور منصور لبكي، على طاولة الحبر الأعظم قداسة البابا فرنسيس، بمبادرة من سفير لبنان السابق لدى الكرسي الرسولي أنطونيو العنداري، وقد قدّمه لقداسة البابا خلال تولّيه مهامه. يتوسطون من أجله، فهو ابن السيستم الكنسي، والسيستم الكنسي اللبناني أكثر تعقيداً وانحيازاً للذات منه كسيستم عالمي بدأ ينصاع للحقائق والمؤسسات المدنية والقضائية برفع الحصانات عن كبار مسؤوليه، ولو مرغماً. السيستم الكنسي اللبناني مجسّم مصغّر عن المؤسسة السياسية اللبنانية، وهو أيضاً عضو فاعل ومقرر فيها، مثله مثل المفتي الذي عصر على نفسه ليمونة وقَبِل اعتذار النائبة رولا الطبش لربها في داره، ومثله مثل السيد الذي شوّه قانون العنف الأسري وداس على مشاريع قوانين الأحوال الشخصية المدنية الاختيارية، ومثل شيخ عقل الظل الذي حضر اجتماع قمة في بيروت رغم أنوف الجميع ونكاية بمن لم يعيّنه.

ومنصور لبكي المتهم باعتداءات وتحرشات جنسية، والمعاقب من الفاتيكان، تحتويه الكنيسة المارونية اللبنانية وتدافع عنه مجاناً، من دون الالتفات إلى تفنيد دعاوى من يقولون أنهم ضحاياه. البطريرك بشارة الراعي برّأه مراراً، في موازاة قضاء لبناني يدير أذناً صمّاء لكل ما كتب في الإعلام ولم يرَ فيه "إخباراً" يستوجب تحركه. الشأن، مرة أخرى هنا، شأن الكنيسة وليس للشعب اللبناني ومؤسساته قول فيه. والكنيسة في بلادنا، كما الجوامع والحسينيات، هي مدرسة ومستشفى وجمعية خيرية ومشاريع استثمارية. وإذا كان الإعلام العالمي، من صحافيين وسينمائيين وناشطين في السوشال ميديا، يرفدهم القانون وأجهزته، قد أجبروا الفاتيكان على الاعتراف بتفاقم مشكلة الاعتداءات الجنسية على القاصرين والراهبات حول العالم، فالإعلام اللبناني يتابع هذا الحدث الكوني مصفقاً لرحابة صدر البابا، ومندهشاً بالأمر الجلل الذي لا يفعل سوى أن يعرضه، إذ لا تظهر له أي تقاطعات مع الكهنوت اللبناني الذي يبدو حَبَلاً بلا كل هذا الدنس.

اليوم، الفساد. واليوم أيضاً، وفي غرفة الصدى التي يتحدث فيها الرئيس ميشال عون عن إصلاح القضاء، وهو في الوقت نفسه "يبشر" بضرورة إحالة عدد من الدعاوى على الصحافيين والناشطين الإعلاميين إلى قانون العقوبات بدلاً من المطبوعات، يُحاكم صحافيون في المحكمة العسكرية، وتضع "منظمة العفو الدولية" الدولة اللبنانية أمام استحقاق مناهضة التعذيب في السجون بأثر من قضية الممثل زياد عيتاني... اليوم، خمر النكتة الإصلاحية السمجة، وغداً أمر أولي الأمر.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024