"المومس الفاضلة" تعرّي تبرّؤ مصر.. من مصر!

شريف الشافعي

الإثنين 2021/11/15
يبدو أن الانحناءة الشهيرة من الفيلسوف جان بول سارتر لسيدة المسرح العربي سميحة أيوب، في ستينيات القرن الماضي، عندما لعبت أمامه ببراعة على خشبة المسرح القومي بمصر بطولة مسرحيته "المومس الفاضلة"، قد امّحتْ من ذاكرة المشهد الثقافي المصري، مع خفوت إشعاعات القوى الناعمة، وانحسار فيوضات الفكر والتنوير والإبداع. 

بل إن لفتة التقدير هذه من المفكّر العالمي للممثلة التي نالت إعجابه آنذاك، قد انقلبت في الأيام القليلة الماضية، لتتحوّل إلى صفعة موجهة لكل من الفنانتين سميحة أيوب وإلهام شاهين على السواء، لمجرد تبادلهما الحديث في مهرجان شرم الشيخ للمسرح الشبابي عن إمكانية إعادة تقديم المسرحية من جديد، لتكون إلهام شاهين بطلتها في هذه المرة، وأثنت سميحة أيوب على الفكرة، وتحمست الفنانتان لسرعة تنفيذها.

لم يكد يحدث ذلك الإعلان منهما، وتتردد أنباؤه في وسائل الإعلام والسوشيال ميديا، حتى أفصح "فرق التوقيت" عن ذاته، وتكشفت مصر الأخرى البعيدة كل البعد عن وهج الستينيات ونضجها، وظهرت حقيقة الحالة الراهنة عارية بكل بؤسها وأحاديتها وضحالتها وهشاشتها، حيث انطلقت الاتهامات والانتقادات للمسرحية ومؤلفها والقائمين على إعادتها، بفجاجة منقطعة النظير، ولاعتبارات ليست أدبية ولا فنية بطبيعة الحال، بحجة مخالفتها مبادئ المجتمع وثوابته وقيمه وما إلى ذلك من تمسّحات أخلاقية لا تنبني على منطق، ولا تستند إلى قراءة العمل وتمحيصه. 

المثير للغاية، أن هذه الضغوط التي مورست لإيقاف المسرحية وراءها أكثر من جناح في آن واحد، منها جناح الجماعات المتطرفة والمتشددة، واللجان الإلكترونية للإخوان وغيرهم من التيارات، ممن اعتادوا التربص بإلهام شاهين على وجه الخصوص، ومن ثم فإنهم بدأوا الهجوم على المسرحية، وقد وصفتهم بقولها في منشور لها "عارفة مين اللي ورا دول، وليا عداوات مع جهات إخوانية، ورفعت عليهم قضايا كثيرة، وحصلت على أحكام، وهما شغالين عليّا للانتقام". 

وهناك كذلك، وهذا هو الأكثر إدهاشًا، جناح البرلمان المصري، المتسق عادة في توجهاته وتصوراته مع المؤسسة الرسمية، في كل ما تذهب إليه، بما في ذلك رؤيتها للإدارة الثقافية، وتحديد المطلوب من الثقافة والمثقفين في هذه المرحلة الحرجة. وهنا تتجلى الأزمة العميقة، حيث يضيق الأفق حدّ الانسداد، وتتقزّم النظرة فلا تكاد ترى الفن والأدب والإبداع عمومًا خارج آليات التوجيه والإرشاد الساذجة، ونظريات التلقين المدرسية المحنطة.

هي باختصار ثقافة الانغلاق والوصاية والتضييق والتجريم والتحريم وفرض الحصار وممارسة دور الرقيب فعليًّا وضمنيًّا معًا، في ظل قانون أو بدونه، وهو ما وصفته سميحة أيوب بدقة قائلة: "عايزين يرجعونا الكهوف تاني". 

ويحمل طلب الإحاطة الذي قدّمه النائب أيمن محسب، عضو مجلس النواب عن حزب الوفد، للمستشار حنفي جبالي، رئيس مجلس النواب المصري، والموجّه لرئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي، ووزيرة الثقافة إيناس عبد الدايم، بشأن "المومس الفاضلة" كل هذه الإِشارات والدلالات الظلامية الكهفية. فهو يعترض على المسرحية، وخصوصًا عنوانها، بدعوى أنها فن إباحي لا يناسب المجتمع المصري، ويشترط على الفنون والآداب وروافد القوى الناعمة بشكل عام أن تلتزم بدورها المرسوم في نشر الوعي وتغيير ثقافة المجتمع وإلقاء الضوء على موضوعات هادفة، في الوقت الذي تحرص فيه الدولة المصرية على بناء الإنسان وتربية النشء. 

كما يدعو عضو مجلس النواب إلى ضرورة تشديد الرقابة على الأعمال الفنية، بما يضمن سلامة تنشئة الأجيال الجديدة، وتعزيز الهوية المصرية. ويعترف النائب صراحة بأنه تقدم بطلب الإحاطة بناء على ردود الأفعال الرافضة لاسم المسرحية.

ولأن مثل هذه الزوابع الفارغة تكاد تتوقف عند عنوان العمل، من دون الإمعان في نسيجه والوقوف على تفاصيله، فقد استنكرت إلهام شاهين بدورها الاعتراض على عنوان المسرحية، مشيرة إلى أن مفردة مومس منتشرة في الكتب الدينية الشهيرة، ولا يعترض أحد عليها. فيما أسهب بعض الفنانين، من منظور أخلاقي معاكس، في الدفاع عن "نظافة" المسرحية، وخلوها من الفحش، ومنهم سميحة أيوب ذاتها، التي تحدثت عن محتواها الإنساني الراقي وابتعادها عن الإغراء والتعري، ومحمد صبحي الذي قال إن سارتر كان يدافع عن الأخلاق في المسرحية، ولا مبرر لتغيير عنوانها، وسهير المرشدي التي علقت بأن المجتمع المصري يستسيغ لفظة دعارة، فلماذا يدّعون أنه يستنكر مفردة مومس؟! 

ومن جهتها، قالت إلهام شاهين متهكمة "هل الآن يحافظون على التقاليد والأخلاق، وفى الستينيات لم تكن هناك تقاليد وأخلاق؟"، كما استعادت كلمة مترجم المسرحية عبد المنعم الحفني، مركزة على مقولته "سارتر لا يقدم أدبًا إباحيًّا، على العكس، فإنه في كتاباته يبرز مسائل الواجب والالتزام. وهذه المسرحية تتناول الشخصية الإنسانية من ناحية الأخلاق، واختار سارتر شخصية المومس أو البغي، لأن البغاء هو أسوأ ما يمكن أن يُبتلى به المجتمع أو تمتهنه المرأة".

هكذا، يبدو المشهد المصري برمّته، منحصرًا في مناقشة أمور يجري تصويرها على أنها جدلية، فيما يُفترض أنها بديهيات، وعلى رأسها أن قراءة عمل مسرحي يجب أن تنبني على معطيات جمالية وفنية مجردة، بدلًا من أن تدار المعركة على هذا النحو من الاتهامات والدفاعات المضادة، لكنه الواقع الثقافي الهش، الذي بلغ أقصى درجات التردي والسطحية.
وتتصدى مسرحية سارتر، التي كتبها عام 1946، للتفرقة العنصرية والنظام الطبقي في الولايات المتحدة الأميركية، من خلال استعراضها حكاية أسرة ثرية يسعى أفرادها إلى التنصل من قتلهم رجلًا زنجيًّا، وذلك من خلال شهادة زور لعاهرة بيضاء، من أجل إلصاق التهمة برجل زنجي بدلًا من المتورطين الحقيقيين في الجريمة.

ولم يتناول اللغط الدائر في أزمة "المومس الفاضلة" في مصر التفاصيل المضمونية والتحليلية لمسرحية سارتر، والأفكار التي تطرحها، والإسقاطات المجتمعية، والجماليات التعبيرية، وأبجديات العُلبة المسرحية، وما إلى ذلك، واقتصر الحديث هنا وهناك حول ما إذا كان عنوانها وأسلوب معالجتها خادشًا للحياء أم لا. ومثل هذا المستوى الهزيل من التداول هو بحد ذاته وجه من وجوه الانزلاق الكارثي، الذي بلغت به الثقافة المصرية الهاوية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024