عودة "الشاعر والمرأة"

روجيه عوطة

الجمعة 2020/06/12

ثمة أمر ملاحظ في السجال الحاصل حول مسألة كتابة سليم بركات عن أبوة محمود درويش، وهو عودة موضوع معين إلى الواجهة: "الشاعر والمرأة". ذلك، أن عدداً من المعلقين على تلك المسألة، وفي حين حديثهم عن الصلات التي جمعت بين شعراء ونساء، كان انطلقوا منه، لكي يصير الشعراء هم "الشاعر"، والنساء هن "المرأة".

من المعلوم ان ذلك الموضوع، وحين كان يطرح دوماً، ففي إطار أسطرة الشعراء ليغدوا جميعاً على صورة واحدة، اي "الشاعر". وهذا "الشاعر" كان، وعلى تمامه، بمثابة "عليم" بالحب، وبالتالي، على بينة منه إلى درجة صياغة كلامه، أو"فنه" بحسب أوفيد، الذي ينقله إلى أغياره. وعندها، في استطاعة هؤلاء ان يذهبوا في الحب على نحوه صوب النساء، اللواتي يقدمهن، وعلى النحو نفسه، بالأسطرة ايضا، والتصوير الآحادي إياه، أي كـ"المرأة".

بالتالي، تستقر العلاقة بين "الشاعر"، وهو مجموع الشعراء، وبين  "المرأة"، وهي مجموع النساء. الاول، وبشعره، يكتشف الثانية، وهو، وحتى لو التقى كثيرات، فهذا لا يحمله سوى إلى تكريس معتقده بأنهن تجسيد لها، وأنهن تفصيل لأل تعريفها. فليس في خاطره سوى "المرأة"، التي، وعلى مشهد غابر، يفتش عنها، يبحث بين كل النساء عن تجليها، وفي هذه الأثناء، يربطهن بها، بحيث أنها مرجعهن. وهو، وحين يتحدث عنها، سرعان ما يصيح "المرأة هي هكذا"، محدداً "ماهيتها"، أو "جوهرها"، لتكون ذلك المرجع الكبير، الذي يرد كل النساء اليه.

وما "المرأة" ؟ في حال طرح هذا الاستفهام على "الشاعر" غالباً ما كان، وإن لم يذهب إلى الغزل بما هو تحديد لسمات الطلة والقد، سرعان ما يردد أنها "الزوجة والحبيبة والصديقة". فيتنقل بين تقديمها المغزولة، المتغزل بها، وتقديمها على دورها في مجتمعه، الذي، ولكي يؤكد أنه" حر" فيه، قد يضيف "من حق المرأة كذا"! بهذا كان "الشاعر"، هذا المنتج السبعيناتي، الذي لا يزال ماثلاً هنا وهناك، يأخذ على عاتقه تعيين" المرأة"، بمعنى تحديدها، وبمعنى إعطائه مرتبة لها من عندياته. فصحيح انها مرجع كل النساء، اللواتي يصرن مجسماتها، غير أن" الشاعر" هو السلطة، التي يعود ذلك المرجع إليها، لا سيما أنه هو الذي يؤلفه، كما لو أنه خالقه. بعبارة واحدة، "الشاعر" هو الفحل، اي القوي، والكامل، والمكتفي، الذي يلقي كلمة فتحصل، يلقي "المرأة"، فتصير كل امرأة منها!

قد يصح القول إن وريث هذا "الشاعر"، الذي لطالما عشق المنابر وعشقته، هو صورة ثانية عن الشعراء بما هم "شاعر" تائه. فهذا "الشاعر"، وفي هيامه، ورث الفحل، وإرثه هذا تشير اليه خصلة لديه، اي إنغلاقه على ما يشبه "الغموض". وخصلته هذه لطالما يبديها من شعره، كما أنه يبديها، وفي أثناء حديثه عن " المرأة" ، أنها موضع لحبها له، فيصيح على شاكلة الفحل:"المرأة تحب الشخص الغامض". وهو، حين يتعرف على هذه "المرأة" في النساء، لا يتوقف عن عرض غموضه، بوصفه امساكاً له بسرٍ ما، يتبوء به سلطة عليها. وسلطته هذه لا تمنعه من القول بحريتها بما هي، وفي ظنه، تحولها إلى غرضٍ سهل المنال.

على هذا المنوال، كان "الشاعر" يحدد" المرأة"، مثلما يحدد العلاقة معها. وهو كلما كان يمضي في ذلك، كان ثمة تحت هذه "المرأة" نساء، لا يتحدث مكانهن، إنما يمنعهن أصلاً من الحديث بحجة أنه "يهتم بالمرأة" أو "يعطيها حقها". وفي الوقت نفسه، كان تحت "الشاعر" شعراء يطاح بهم على أساس انهم لا يتطابقون معه، اي لا يمثلون صورته. فمن ناحية، قهر النساء بصورة "المرأة"، ومن ناحية متصلة، قهر الشعراء بصورة "الشاعر"، وفي الحالتين، هناك أصوات وتجارب وحيوات تعرضت للمحو من أجل قصيدة الفحل، لا سيما حين يكون أصحابها من الشاعرات اللواتي لا هن "الشاعر" ولا هن "المرأة".

من هنا، تبدو عودة موضوع "الشاعر والمرأة" إلى الواجهة في إثر سجال بركات ودرويش، وغير انها إشارة إلى كونه لا يزال خلف هذه الواجهة، الا أنه بمثابة ظرف لثلاثة أمور. الأول، للتذكير بالنساء اللواتي أزالهم "الشاعر" بـ"المرأة"، اي للتذكير بكل امرأة سحقتها "المرأة"، والثاني، لتذكر الشعراء الذين أزالهم" الشاعر" بصورته، يعني لتذكر كل شاعر سحقه "الشاعر"، والثالث، لتذكر لزوم الانتهاء من "الشاعر" و"المرأة" أينما كان، في بقايا مؤسسة الشعر التي توقفت في مطالع الألفية الثالثة، أو في خطبة "النسوية الدولتية" ايضاً. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024