لبنان.. بين قصب المصّ والأسلحة السرية

فوزي ذبيان

السبت 2021/10/23
في شهر أيار من العام 2005، فُصلت إلى المجموعة الأمنية في مرجعيون والتي كانت قد شُكّلتْ في أعقاب الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب. في أوائل شهر حزيران من ذلك العام، كنت مترئساً حاجزاً أمنياً على مفرق بلدة طلّوسة. بعد منتصف الليل بقليل، وصلت سيارة مرسيدس يقودها شاب دون الثلاثين من العمر وبمعيته شيخ معمّم. لدى انحنائي بعض الشيء لمعاينة الذين في السيارة، فوجئت بأن المقعد الخلفي يحوي بعض القذائف الصاروخية بشكل واضح وصريح وكأني بهذه القذائف كائنات وقحة تمدّ لسانها للحاجز الأمني (كممثل للسلطة اللبنانية) من باب الإستخفاف والتحقير.

سألت من في السيارة وقد ركّزت الضوء الذي في يدي فوق الصواريخ:"شو هول؟!!" بنبرة من قد استبد به التعجب الشديد. فما كان من الشيخ إلا أن مطّ رقبته فوق صدر الشاب السائق وقال لي وقد شملني بابتسامة عريضة: "قصب مص".

تنحى بي أحد عناصر الحاجز ممن سبقوني للخدمة في الجنوب، وسألني الهدوء إثر الكلام الذي توجهتُ به للشيخ. قال لي هذا الأخير: "شكلك يا وطن مفصول جديد لهون". تواصلتُ مع غرفة العمليات المركزية في ثكنة مرجعيون فأتاني الجواب وبشكل صارم: "صروف النظر، وتروك السيارة تكمّل طريقا".


مع توالي الأيام وكرّها، وقد اختُصرتْ مهمتنا الأمنية في الجنوب على الإبتسام لدوريات الأمم المتحدة ثم إرسال الصور لكوفي أنان بغية تأكيد حضور الدولة اللبنانية في الجنوب، اقتنعتُ بأن مد اللسان لنا كقوى تمثل السلطة اللبنانية من نافل الأمور، واعتدت شأن كل رفاقي، هذه الإهانات اليومية حتى تلاشى وقعها نهائياً.

فالدولة اللبنانية وقد رُوِّضتْ منذ 3 تشرين الثاني 1969 (إتفاق القاهرة المشؤوم) على التآلف مع السلاح غير الشرعي، لا يحق لها عبر بعض الدركيين التعساء التطاول على أي سلاح غير شرعي آخر.

فمنذ تفتّحت عيوننا على العالم، اكتسى السلاح غير الشرعي طابع الوقار في وعينا وفي الوجدان، بينما سلاح الشرعية كان بمثابة الزينة التي تضفي على المناسبات الرسمية علائم البهجة والحبور. لم تسعفني الحيلة مرة، شأني شأن أبناء جيلي، لتلقّف السلاح اللاشرعي كندبة في جسد لبنان. تحول الوطن إلى ندبة عميقة الغور في حياتنا بينما سلاح المليشيات، بتنويعاتها المختلفة المسيحية والإسلامية، ومنذ التاريخ البعيد حتى اليوم، لم ينزل عن عرش وجاهته.

غالباً ما تمدّني الذاكرة بذلك الشاب الإشتراكي في أواسط الثمانينات، والذي كان يركن جيب الحزب المجهز بمدفع 106 في ملعب المدرسة، ويصعد متباهياً إلى الصف بينما الفتيات يتهامسن بشأنه وقد علت الإبتسامات ثغورهن. لا أظن أن ثمة لبنانياً على طول خريطة بلد الـ"قلّي وقلتلّو وضْرُبني لأضربك.." لم يحتشد خاطره بمشاهد من هذا النوع في "الشرقية" و"الغربية".

لم يجانب الفيلسوف الألماني، ماكس فيبر، الصواب، عندما قال إن من علامات قوة السلطة احتكارها للعنف. لعل من الدلائل المهمة على صحة مقولة فيبر، ما حصل في لبنان غداة انتهاء الحرب اللبنانية، حينما استبدّ زعماء المليشيات بالسلطة الشرعية على خلفية احتكارهم العنف لعقود خلت قبل اتفاق الطائف، فإذا بهم في المرحلة التالية هم أنفسهم هذه "السلطة"!

لا سلام في لبنان إنما فقط عنف السلاح، تارة يصمّ هذا السلاح آذاننا، كما حصل مؤخراً في منطقة الطيونة، وتارة أخرى يهمس همساً غالباً ما يكون متقطعاً.

منذ العام 1975 يمور في صدور اللبنانيين خوف من تفكك الجيش في حال أراد التصدي لأي سلاح غير شرعي. هو خوف في محله، والمسكوت عنه في هذا الخوف، ليس عدم قدرة الجيش على التصدي، إنما في الإقرار الضمني بأن الجيش هو انعكاس لأخطبوط المليشيات الطائفية في لبنان وقد تجلبب هذا الأخطبوط بجلباب الشرعية.

يعلمنا تاريخ حروب هذا البلد منذ العام 1958، حتى الأمس القريب، أن الجيش هو افتراض حل، ولا يجب أن يتجاوز كونه افتراضاً بسبب دقة توازنات تركيبته الطائفية، فإذا بنا إزاء هشاشة مكونة من بشر كثر وحديد صلب!

يا لها من دائرة جهنمية حُبكت خيوطها بإتقان من قبل رعاة الطوائف منذ أن صار لبنان. قادتني الصدفة لأن أكون رجل أمن لفترة طويلة من حياتي، لأشهد مراراً وبأمّ العين، أن اقتران الدولة مع "الأبوملحمية" لا يؤدي إلا إلى تمكّن الشرير من المسكين أبو ملحم على الدوام. لطالما تمنيت، أثناء الكثير من المهمات التي كنا نُكلّف بها كقوى أمنية، وأحياناً كثيرة بمعية الجيش، لو كنت مثل واحد من عناصرالجيش الصيني الشهير والمعروف بالتيراكوتّا والمدفون تحت الأرض منذ قرون وقرون. إذ ليس من استقرار البال وليس من الأخلاق بشيء أن لا نكون كقوى أمنية وجيش، مثل هذا الجيش الصيني المدفون، إلا بمواجهة من هم خارج اصطفافات طوائفهم الدينية، كما كانت عليه الحال أثناء حراك 17 تشرين، حيث البطش كان سيّد الموقف بل أنه قد تعزز ببطش مليشيات "حزب الله".

نعم، يبدو أن تماسك المؤسسة العسكرية في لبنان لا يتحصّل إلا بمواجهة اللاطائفيين، وفي هذا خيانة لأبسط فكرة عن الوطن، حيث الكل يجب أن يكونوا تحت سقف القانون... وثمة شعور من الـ"لالا لاند" خامر ذهني وأنا أخطّ السطر الأخير!

على كل حال هو تاريخياً حال البلاد وشأن العباد في لبناننا، حيث العناوين الكبرى تحجب  الإزدراء بالحس الإنساني السليم، وتلبّد الاهتمام بالشأن اليومي البسيط، وتسمح بتفشّي الكذب التكتيكي الذي تقتضيه سياسات المليشيات في حروبها الضخمة.

في لقاء معه، يورد جورج حاوي أن الإتحاد السوفياتي أرسل مرة كمية من الأسلحة لتوزع على الحركة الوطنية عبر حركة "فتح". لم تستطع الحركة الحصول على هذه الأسلحة بالهيّن، لكن، بعد جولة اتصالات قام بها كمال جنبلاط مع ياسر عرفات، تمكنت الحركة أخيراً من استلام هذه الأسلحة. لدى الكشف عليها، استنكر كمال جنبلاط، لأن تلك الأسلحة لم تكن على ما يرام، فردّ عليه عرفات بالقول أن السوفيات هم من أرسلوا أسلحة مستعملة. ضحك جنبلاط من كلام القائد الفلسطيني وقال له: "مُستخدم فهمنا، بس مكتوب علاي أبو الليل وأبو الموت وأبو الهول؟!!!". يقول حاوي أن الموضوع انتهى بأن قبَّل عرفات جنبلاط بحضور بقية القادة فضحكوا وضحكنا ومشي الحال.

لقد تحقق في ظن اللبنانيين ويقينهم، أن الأمن في بلدهم إنما هو مفهوم زائف، وعبارة "الأمن مفهوم زائف" لكاتب أميركي، وليست لي. أما الأمن الحقيقي في هذه التركيبة الطوائفية شديدة المتانة والبنيان، فلا يقوم له مقام إلا عبر السلاح المقدس للجماعة وما تملك من قصب مصّ. كأني باللبنانيين عبر سلاحهم المتفشي والمكبوت، يعاضدون تلك النظرية الإسكاتولوجية في تاريخ الأديان والتي لا ترى في الله إلا محض محارب، فالأمر يتجاوز الصح والخطأ وهو يقع في ما وراء الخير والشر. إنها ضرورة ترقى في بعض نواحيها لتكون ضرورة بيولوجية، أن تكتنز كل جماعة لبنانية سلاحها الواضح والصريح في فترات تاريخية متقطعة. أما تلك "الأسلحة السرية"، حسب عنوان الرواية الشهيرة للأرجنتيني خوليو كارتاثار، والتي تملكها قوى الشرعية من درك وجيش، فلا محل لها في الإعراب اللبناني المعقّد في وجهه الحقيقي، إلا في المناسبات السعيدة (عيد الإستقلال... عيد الجيش... الخ)، أو إبّان وقف مؤقت لإطلاق النار بين آلهة اللبنانيين، بصرف النظر عن المدة الزمنية لهذا المؤقت الدائم، أو لمواجهة بعض الحالمين من جماعة الثورة، أنثى في ساحة الشهداء أو فوق جسر الرينغ، وبشكل خاص أمام حصون مجلس النواب.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024