١٧ تشرين لحزب الله: كشّ ملك!

أسعد قطّان

الأحد 2020/07/05
تحيلنا أحداث شهر حزيران المنصرم إلى العلاقة الملتبسة بين حزب الله وانتفاضة السابع عشر من تشرين. فلقد قام الحزب في الشهر الماضي بعمليّة ترسيم حدود مزدوجة مع هذه الانتفاضة، التي بات بعضهم اليوم يجزم بخبوّ بريقها: أوّلاً ترسيم من الخارج، وذلك حين حذّر المنتفضين لا من مغبّة التعرّض لسلاحه فحسب، علماً بأنّ القلّة بينهم صوّبت على هذا السلاح، بل من خطورة الذهاب أبعد ممّا يقرّره هو. سلاح الحزب في هذا السياق يتخطّى معناه الوضعيّ ويتّخذ دلالات رمزيّة، أي إنّه يصبح عنواناً لمجموعة من المفاصل التي يعتقد الحزب أنّه يهيمن عليها ولا يسمح لأحد بالتلاعب بها أو اختراقها. وثانياً ترسيم من الداخل، وذلك حين أراد الحزب أن يثبت للمنتفضين أنّه قادر على التحكّم بساحاتهم وتطويع شعاراتهم وأخذها إلى المكان الذي يريده هو أن تذهب إليه. لقد استعادت مشهديّة ليلة الرينغ كلام حسن نصر الله أنّ انتفاضة الشارع الحقيقيّة لا يقوم بها شباب الانتفاضة وبناتها، بل رجاله الذين تمرّغوا طيلة سنتين في أوحال الوسط التجاريّ قبل أن يفرضوا معادلتهم على الدولة. ولكنّ هذه المشهديّة تأخذنا بالذاكرة أيضاً إلى مكان آخر، أو على الأصحّ إلى كلام آخر، كلام زياد الرحبانيّ عن الميليشياويّين الذين يقرّرون أن يجلسوا مع خصومهم في الخندق ذاته إذا اقتضى الأمر. هل تذكرون؟ هكذا تبدو الانتفاضة اليوم محاصرةً بحزب الله من الجهات كلّها في آن معاً.


ولكنّ تعالوا نستحضر الماضي قليلاً. لماذا يحاصر حزب الله المنتفضين، الذين يطالبون بالخبز والعدالة ومحاربة الفساد؟ ربّما كانت انتفاضة السابع عشر من تشرين فعلاً أسوأ ما يمكن أن يصيب الحزب: أسوأ من اجتياح إسرائيليّ يسترجع سيناريو حرب تمّوز، أسوأ من الدواعش الذين يلتهمون أكباد البشر، وربّما أسوأ من مرض عضال يلمّ بالسيّد حسن نصر الله نفسه. من منّا لا يذكر كلماته يوم قامت الانتفاضة؟ من منّا لا يذكر سبّابته المهدّدة؟ من منّا لا يذكر الدوائر السود التي رسمتها عباراته حين دافع عن فشل حكومة سعد الحريريّ وإفلاسها وأعلن أنّها خطّ أحمر؟

لماذا يدافع أمين عامّ حزب الله عن الحكومة التي أسقطتها صرخات الناس في بيروت وطرابلس والنبطيّة وغمرها نهر شتائمهم فانهارت؟ لماذا ينتقل السيّد من لغة الوعود الرنّانة بالتصدّي للفساد، الذي هو واجب «جهاديّ»، إلى لغة الوعيد الصلبة فيما الناس لم يطالبوا بإسقاط سلاح الحزب، بل كانوا يتعاطفون معه، واكتفوا بفضح الفساد والدعوة إلى مجابهته؟ نظريّة المدافعين عن حزب الله تتلخّص في أنّه كان يتشبّث بسعد الحريريّ لأنّه «الأقوى في طائفته» - عبارة بروباغنديّة هي أقذع من كلّ الشتائم التي كيلت للسياسيّين في تظاهرات الانتفاضة اللبنانيّة، ولأنّه لا يريد استفزاز السنّة، الذين يشعرون منذ سنوات بالإحباط والمهزوميّة.

ربّما يكون هذا الكلام صحيحاً، ولكنّه لا يستنفد الوقائع. فالسيّد حسن ليس غبيّاً. هو كان يعرف أنّ حكومة الحريري هي درعه الذهبيّ وأفضل ما يستطيع أن يتحصّن به كي تستمرّ اللعبة التي يتقن الحزب قواعدها جيّداً، لعبة الظهور عند الاحتجاب والاحتجاب عند الظهور. لقد أدرك أمين عامّ حزب الله بحدسه العبقريّ أنّ استقالة الشيخ سعد ستضعه أمام خيارين أحلاهما مرّ: إمّا حكومة اختصاصيّين حقيقيّة تفسد على الفاسدين دستهم وتقلب عليهم الطاولة، وإمّا حكومة اختصاصيّين وهميّة تحكي ولا تحكم، كما هو حال زمرة حسّان دياب التي لم تستقل بعد بسبب امتهانها لعقول اللبنانيّين. اختار حزب الله الحلّ الثاني. بهذا المعنى، ربّما تكون استقالة ابن رفيق الحريري أذكى خطوة سياسيّة قام بها هذا الرجل في سجلّ يكتظّ بالتفاهة الحزبويّة والركاكة السياسيّة.

لقد تبنّى حزب الله الحلّ الثاني لأنّه يعرف أنّ الحلّ الأوّل سيجرّ عليه الوبال. هذا لا علاقة له بمدى تورّط بعض كوادره في مستنقع الفساد أو بالمعابر المكشوفة والمحجوبة، بل بتحوّله، عن قصد أو عن غير قصد، إلى حارس لمنظومة سياسيّة فاسدة يخدّمها في الداخل ويستخدمها في الخارج. لقد لزّم الحزب طوال سنين الملفّ الداخليّ لحلفائه الفاسدين في حركة أمل معتبراً أنّه يحافظ هكذا على تماسك الطائفة الشيعيّة. فتحوّلت هذه الطائفة من فضاء فريد أنجب لامعين ألمعيّين في الثقافة والأدب والفكر السياسيّ، وأكثر علماء الدين في لبنان والعالم العربيّ ذكاءً ومرونةً وسعة أفق، إلى بنية مجتمعيّة متراصّة تصادر الحرّيّة السياسيّة وتصدّر الطرحات السود. وحين خرج الحزب من غيبوبته في الداخل وقرّر فتح الحرب على مسرحيّة الفساد المستمرّة منذ عقود، وجد نفسه وقد تحوّل إلى مجرّد لاعب في هذه المسرحيّة الجهنّميّة، لاعب عاجز عن خلع زيّه التنكّريّ والذهاب إلى دور آخر. وكانت النتيجة أنّ ما لم تحقّقه إسرائيل حقّقته الطغمة المافيويّة الزبائنيّة اللبنانيّة: لقد دجّنت حزب الله وهزمته وحوّلته إلى أضحوكة.

ولكنّ الخيار المرّ كان له تبعات أخرى. فاليوم سعد الحريريّ يجلس في بيته السعيد في وسط المدينة ويضحك في سرّه فيما حزب الله يجابه بحكومته المتعثّرة وحيداً. لقد وضعته استقالة الحريري في صراع مباشر مع خصومه، ومع المجتمع اللبنانيّ الذي يتداعى... ومع نفسه. حتّى الذين تحالفوا معه في الأمس عقدهم ينفرط اليوم بعدما أدركوا أنّ حساب الحقل الإيرانيّ شيء وحساب البيدر الأميركيّ شيء آخر. وها هم يترجّحون ويتذبذبون ولا يفقهون كيف يجب أن يتعاطوا مع المقاطعة العربيّة والعزلة الدوليّة والقيصر الأميركيّ ذي المخالب المسنونة. أمّا تهديد السيّد حسن نصر الله بطرد أميركا من العراق انتقاماً لمقتل قاسم سليماني، فيبدو اليوم أضغاث أحلام.

ولكنّ كلّ هذا في كفّة والتهاوي المجتمعيّ والاقتصاديّ في لبنان في كفّة أخرى. لقد حسب حزب الله حساب كلّ شيء: الحرب مع إسرائيل، الحصار الأميركيّ على إيران، الدواعش الذين مدّتهم بعض دول الخليج بالمال والسلاح، تعثّر الحلفاء في العراق واليمن، إفريقيا وفنزويلا وألمانيا. ولكنّه لم يحسب حساب الجوع، ولم يحسب حساب خراب بيوت الناس، كلّ الناس، الذين يحبّونه والذين يكرهونه، ولم يحسب حساب انهيار الهيكل على رأس المجتمع الذي هو جزء منه. ماذا ينفع السلاح في متاهة الجوع؟ من يحوّل البنادق إلى خبز وطحين؟ وكيف تصير الصواريخ الدقيقة دواءً ومدارس ومستشفيات بدلاُ من المدارس التي تقفل أبوابها والمستشفيات التي يقف الشيعة على أعتابها محبطين مدعوسين شأنهم شأن السنّة والدروز والمسيحيّين بعدما أذلّتهم المنظومة المركنتيليّة ونهبتهم واستباحت كراماتهم؟ أمام الجوع يتساوى الجميع، فماذا ينفع الإنسان، كما قال يسوع الناصريّ، «لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه»؟


لقد تهيّأ حزب الله للاحتمالات جميعها. ولكنّه أسقط من حسابه احتمال الجوع، الذي هو المقدّمة غير المنطوق بها في العمارة الفكريّة اليساريّة. صدّق أقاويل الرأسماليّين في لبنان عن الهندسات الماليّة الذكيّة والدولار المستقرّ وكذّب الفقر في الخندق الغميق وفي خطاب أئمّة الشيعة الذين سالت دماؤهم دفاعاً عن الفقراء والمظلومين والمستضعفين في الأرض. خدعته بهلوانيّات اللصوص وأحابيلهم الماليّة وأفقدته القدرة على رصد ما كان يمور في غياهب المجتمع اللبنانيّ ويتموّر تحت رماده منذ العام ٢٠١٥ على الأقلّ، حين قامت ثورة النفايات. كيف يحصل مثل هذا لأذكياء الحزب الذين يلقّنون المخابرات الإسرائيليّة كلّ يوم درساً في المهارة وبعد النظر وطول الباع؟


الفساد استتبع الإفلاس، إفلاس الدولة وإفلاس الناس. والإفلاس استتبع الفقر والبطالة. والفقر اليوم يستتبع الجوع، هذا الذي لا يحارَب بالقاذفات والصواريخ والطائرات المسيّرة، بل بتغيّر شامل في الذهنيّة والمقاربة، هذا إذا افترضنا أنّ حزب الله هو سيّد ذهنيّته وصانع مقاربته. لم يكن في نيّة ثوّار السابع عشر من تشرين أن يحشروا الحزب في خانة الفقر الذي يسحق مجتمعاً برمّته. حين طالبوا بالتصدّي للفساد وتفادوا الخوض في مسألة سلاح الحزب، كانوا ينحنون إجلالاً أمام ذكرى شهداء لبنان الأبطال الذين طردوا المحتلّ عن ترابات أرضنا وواجهوا دبّاباته بصدورهم العارية في حرب تمّوز. ولكنّ نصيبهم كان التشبيح والتخوين و«شيعة وشيعة» من وسط بيروت إلى عين الرمانة مروراً بالطريق الجديدة. الحزب هو الذي أغلق على ذاته في دوّامة اللامعنى حين انساق إلى حماية عصبة الفساد التي تحكم البلد وتتحكّم بأشلاء الدولة. وها هو اليوم يتحمّل التبعات لأنّه «الأقوى» لا في «طائفته» فحسب، بل في لبنان كلّه. لا التلطّي وراء حكومة فاشلة ينفع. ولا خداع صندوق النقد الدوليّ لتحصيل بعض المليارات يفيد. ولا السلاح المتكدّس في المستودعات يقدر على أن يبتاع للناس خبزاً ولحماً. الانهيار الذي يعصى على مفردات اللغة ويهزأ بمجازها سيمحق كلّ شيء ويبتلع كلّ شيء. وسيبقى حزب الله وحيداً يتراقص على فوهة بركان أو يرقص رقصة الموت فوق كومة من ركام كانت بالأمس تدعى وطناً.


هذا كلّه كشفته انتفاضة السابع عشر من تشرين حين أسقطت حكومة سعد الحريري، وأنهت حفلة النفاق التي سمّوها تسويةً لا من باب التوصيف، بل من باب الكذب. هذا كلّه كشفته انتفاضة السابع عشر من تشرين حين قلبت كلّ شيء، وعرّت كلّ شيء، وفضحت كلّ شيء، وقالت لحزب الله من حيث لا تدري: كشّ ملك.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024