مَنع "يا بلح زغلول"..السيسي ليس وحده في فوبيا الأغاني

محمد حجيري

الخميس 2020/08/27
أحياناً، بل كثيراً، ما تتحول الرقابة نوعاً من كوميدياً و"نهفة" تشغل وسائل التواصل الاجتماعي، وتدلّ على سخافة الرقيب وتخلفه وخفة عقله وترهله ورطانته... والحق أن النظام المصري بنسخته الراهنة والرديئة، قرر منع أغنية "يا بلح زغلول"، ومقاطع من أغنية "أهو ده اللى صار"، أثناء عرض مسرحية "سيد درويش" في مسرح البالون في القاهرة. وكلاهما من الأغاني التراثية؛ وترتبطان بمقاومة الاحتلال الإنكليزي لمصر، وكلاهما من الأغنيات التي أسست لصورة مصر في الوجدان الشعبي والعربي. هل نضحك أم نبكي؟ أي نظام هذا الذي يخاف أغنية تراثية؟ ولماذا يخاف؟ كان الناقد المصري طارق الشناوي محقاً حين تساءل بعد المنع "من الذي ينصب من نفسه رقيباً على تراث موسيقي ردده المصريون قبل نحو 100 عام أو أكثر؟ كيف يجرؤ على حذف أغنية ما زالت لها مساحة في خريطة الإذاعة والتلفزيون، وكل الفرق الموسيقية التراثية في مصر تقدمها؟". 


والنافل أن أغنية "يا بلح زغلول" قدمتها الفنانة الراحلة زينب إدريس المعروفة باسم "نعيمة المصرية"، وهي من كلمات بديع خيري، ولها أهمية سياسية وتاريخية. فالأغنية في ظاهرها تتحدث عن البلح، لكنها في باطنها تمجّد الزعيم سعد زغلول، الذي أصدر الحاكم العسكري البريطاني مرسوماً يمنع ذكر اسمه في أي أغنية، كما أصدر قراراً يمنع سيد درويش من الغناء.

هل يعرف نظام عبدالفتاح السيسي هذه القصة؟ هل راقب النظام صورته في وسائل التواصل الاجتماعي بعد المنع؟ هل الرئيس يعيش فوبيا "البلحة" الى هذه الدرجة؟ رواد مواقع التواصل الاجتماعي سخروا من حذف الرقابة للأغنية، وانتقدوا غضب السلطة من كل الأغاني التي تتضمن إشارة للبلح أو البلحة (بعد أغنية "البلحة" الساخرة من السيسي). 

وربطت وسائل إعلام بين منع "يا بلح زغلول"، ومنع مجلس قيادة ثورة 23 يوليو أغنية "يا مصطفى يا مصطفى" في الستينيات، والتي ظهرت مرتين في السينما. المرة الأولى، في فيلم "الفانوس السحري" مع الفنان الراحل إسماعيل ياسين العام 1960، والثانية في فيلم "الحب كده" العام 1961 بصوت بوب عزام. وفوجئ صنّاع الأغنية بمنعها من قبل هيئة التصنيف والرقابة السينمائية والتي كان مديرها نجيب محفوظ في عهد وزير الثقافة ثروت عكاشة، بناء على منع صادر أيضاً من مجلس قيادة الثورة الناصرية. والسبب أنهم اعتقدوا أن الأغنية القائلة "أنا بحبك يا مصطفى"، تدافع عن الزعيم الوفدي مصطفى النحاس، والجملة في الأغنية التي أثارت شك الرقابة هي "سبع سنين في العطارين"، (يا للهول)... ومصطفى النحاس نفسه منع أغنية "يا عوازل فلفلوا" لفريد الأطرش من كلمات أبو السعود الأبياري، بحجة أن كلماتها غير لائقة ولا تتناسب مع الذوق العام، معتبراً ضمناً أنه هو المقصود بهذه الأغنية لخلافه مع علي باشا ماهر لكثرة تردد الأخير على القصر الملكي في عابدين ولكون الملك فاروق يكن كرهاً للنحاس باشا.


نهفة أخرى تقول إن أغنية مطربة الأربعينيات رجاء عبده التي تقول "البوسطجيّة اشتكوا من كُتر مراسيلي.. وعيوني لما بكوا.. دابت مناديلي"، منعها عبد الناصر في الإذاعة المصرية، لأن والده كان يعمل "بوسطجياً". واكتشف ملحن الأغنية، محمد عبد الوهاب، أن عبد الناصر "لا يعرف شيئاً" عن قرار منع الأغنية.. فأعيد السماح ببثّها. واستثمرت الإذاعة البريطانية الأغنية نفسها، إبان حرب السويس للاستهانة بعبد الناصر، كما أن الإذاعة العراقية في حقبة الخلاف المصري – العراقي في عهد عبد الكريم قاسم، كانت تبث الأغنية باستمرار كيداً بعبد الناصر، وجرى استثمار أغنية صباح "بياع كلام"، عقب كل خطاب ألقاه عبد الناصر في إشارة الى أنه يقول ولا يفعل. كان الحكام وغلاة الاستعمار يتصرفون وكأنهم في فيلم كوميدي يشبه "مسرح الساعة العاشرة"، ربما تكون هذه المشهديات صنيعة الحاشية المخابراتية التي تتوجس من كلمة وأغنية وكتاب ونكتة وحتى لفظة "يااه"... فأغنية "من سحر عيونك" هي احدى أشهر أغاني صباح، غنتها للفنان شكري سرحان في فيلم "إغراء"، وتردد أنها تتغزل بعيني عبد الناصر، ومنعتها الإذاعة المصرية. وبحسب ما ذكر طارق الشناوي في إحدى مقالاته، فإن الرقيب على المصنفات الفنية وقتها، الروائي النوبلي نجيب محفوظ (حتى انت يا بروتوس؟!) اعترض على أداء صباح لكلمة "ياااه"، لافتاً إلى أنها غنتها "بمبالغة أنثوية" حتى اضطر ملحن الأغنية محمد عبد الوهاب إلى إعادة تسجيلها مرة أخرى، مع تخفيف حدة مبالغة صباح في نطق الكلمة.


أيضاً في العراق، في زمن عبد الكريم قاسم، قدمت المطربة مائدة نزهت، أغنية عنوانها "يا ام الفستان الأحمر فستانك حلو ومشجر"، وقوبلت هذه الأغنية باستحسان الجمهور. لكن بعد نجاح انقلاب شباط 1963، ومقتل قاسم، منع بث الأغنية بذريعة أنها تخاطب الحزب الشيوعي المعروف بتمجيده اللون الأحمر. وفي ذروة الخلاف السياسي بين العراق وسوريا مَنع صدام حسين، لدى تسلمه السلطة في العراق العام 1979، بث أغنية المطرب السوري موفق بهجت  "يا صبحة هاتي الصينية" لأنها تحمل اسم والدة صدام، ما يعني إساءة لها...

وعلى الموال ذاته، يبدو ان نظام السيسي يعيش فوبيا البلح والبلحة. وفي إشارة إلى منع أغنية سيد درويش، قال المغردون، ربما يكون مردود ذلك، أن مصطلح بلحة شاع مؤخراً في إشارة إلى عبدالفتاح السيسي. والرقابة كثيراً ما تكون، من حيث لا تدري، دعاية اساسية في الترويج لبعض الأعمال. فعلى مدى نحو عامين ونصف، شاهد نحو 6 ملايين شخص، أغنية "بلحة" الناقدة للسيسي، في "يوتيوب"، علماً أن ما زاد من شهرتها ودفع الكثيرين للبحث عنها هو موقف السلطة منها، إذ لاحقت المشاركين فيها، لكن المغني رامي عصام كان قد غادر مصر، بينما اعتُقل مخرجها الشاب العشريني شادي حبش في آذار/مارس 2018 ليظل خلف القضبان حتى توفي في مايو/أيار الماضي ضحية إهمال علاجه داخل السجن رغم تكرار استغاثاته.

وبغض النظر عن سذاجة رقابة نظام السيسي، قدم سيد درويش الكثير من الأغاني الوطنية التي ألهبت حماس الأمة المصرية في ثورتها الشعبية في 1919، في أعقاب الحرب العالمية الأولى. ولم تكن أغاني سيد درويش الوطنية مقتصرة على رسائل سياسية مباشرة، ففي العام نفسه، عرض مع الكاتب بديع خيري مسرحية بعنوان "قولو له"، قدما من خلالها عدداً من الأغنيات الوطنية، من بينها أغنية "بنت مصر" التي قدمت إثر سقوط أول شهيدتين فى تلك الثورة، وهما حميدة خليل وشفيقة محمد. كما اقتبس درويش من أقوال الزعيم مصطفى كامل، عبارات استخدمها في صياغة النشيد الوطني "بلادي بلادي لكِ حبي وفؤادي"، وكثيراً ما تغنى به المصريون فى مناسباتهم الوطنية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024