المصارف.."ديزني لاند" لبنان

رشا الأطرش

الجمعة 2021/04/02
في خضم الحالة السوريالية اللبنانية، الأزمة السياسية والمالية الأشبه بخرافة سوداء، ما زال كل شيء تقريباً يبدو قابلاً للصرف ضمن منطق السيستم المريض، الطائفي التحاصصي المستغلق، العصاباتي العصبوي، والذي ما كان في إمكانه، منذ تأسيس الكيان الملعون، إلا أن ينتج ما أنتج، على صورته ومثاله. وإن كانت قابلية الصرف هذه بخسة ومأسوية، مثل العملة الوطنية اليوم، فإنها تستعصي على زمرة "مؤسسات" تمتلك رؤوساً متصلة-منفصلة عن الطغمة اللبنانية وتتحكم في قلب الجسد الجمعي، رؤوس حارّة-باردة لها حيثيتها شبه المستقلة، من حيث الماهية والتعريف والوظيفة: المصارف.

لطالما كانت مميزة علاقة اللبنانيين بالمصارف، في المتخيَّل العام، منذ ما قبل "سويسرا الشرق" إلى ما بعد ورشة رفيق الحريري، مروراً حتى بالحرب الأهلية. مميزة بالمعنى المحيّر والملتبس والانفصالي للكلمة. فهي علاقة أفراد مع حساباتهم المصرفية، أو هم ظنوا أنفسهم أفراداً، رغم أن صفة الفردية، بمعناها الموضوعي الحر، منزوعة عنهم في مجتمع قَبَلي يعانون/يتنعمون بآفاته. والعلاقة حُلُمية إذا جاز التعبير. إذ كانوا يدّخرون أو يقترضون أو يجمّدون مبالغ بفوائد "سينمائية"، ويبنون على زواج المتعة هذا، أحلام استقرار ورخاء نسبي مؤجل، كانت تُسمى طموحات، وكانت تُعتبر معقولة وطبيعية. وهي، في الوقت نفسه، ومن دون إدراك كافٍ للسرّ الذائع، علاقتهم مع الدولة التي راحت تموّل عجزها وفسادها، ديونها وفشلها، من أموالهم، وتشاركهم في المقابل أرباحها الرملية الهشة التي فرحوا بها كالأطفال أمام السكاكر، والآن غزا الشيب رؤوسهم عنوة لمّا فطنوا إلى الخديعة الكبرى وأنها لم تكن سوى لعبة "مونوبولي" طويلة ومبتسرة، معقّدة وبسيطة في آن.

وكانت هناك علاقة أخرى مع المصارف، طرفها الثاني مجموعة أو شركة أو حزب أأو مافيا، تبيّض الأموال، تُواري رشاوى، تصدّر/تستورد، تبني وتهدم، تبيع وتشتري، تنشئء بزنس صغيراً، توسع امبراطورية تجارية، أو تموّل كارتيلات وإرهابيين... كما في كل منظومة مهترئة، وكما في قصة قصيرة ورديئة عن ليبرالية جُرمِيَّة منفلتة في فضاء فراغ قانوني وسياسي وقضائي.

وإن كان للكلام تكثيف صُوريّ ممكن، فلعل المصارف كانت، ولا تزال، "ديزني لاند" جان بودريار، والذي رأى المنتزه الأميركي الأشهر في العالم، مرتعاً ملموساً ومحسوساً ومُعاشاً للفانتازيا الطفولية، حتى لتبدو لوس أنجيلس من حوله، هي الواقع الحقيقي، في حين أنها ليست سوى "الواقع الفائق".

و"الواقعية الفائقة" هي التي تنشئ نماذج حقيقية بلا أصل، وهي تمثيل (representation)، علامة، بلا مرجع أصيل أو أصلي.

نفكّر في أموال المودعين، من قبل ومن بعد كل ما تشهده البلاد راهناً. نفكّر في الطمأنينة المالية للغد الآجل، والتي دغدغتها مدخرات اللبنانيين في اليقظة والمنام، وفي عوائد عمل وأحياناً تضحيات وحرمان. فهذه باتت مجرد أرقام في الشاشات، دولارات محجوبة/مفقودة/مُصادَرة، وليرات سائلة كالماء المتسرب بين الأصابع، بل متبخّرة في صيف قائظ ممتد، لا أمل بعده في زخّة مَطَر. الأموال في الحسابات، بفوائدها الكرتونية، كما قال بودريار عن سلع "الواقع الفائق"، ليس لها قيمة استخدام بالتعريف الماركسي، لكن يمكن فهمها على أنها علامات على طريقة فرديناند دي سوسور. ذلك أن الواقع الفائق يذهب أبعد من الخلط، أو مزج "الحقيقي" بالرمز الذي يمثله، بل ينطوي على إنشاء رمز أو مجموعة من الدلالات التي تمثل شيئاً غير موجود بالفعل، مثل سانتا كلوز! حتى التظاهرات على أبواب المصارف، تبدو أشبه بتجمّعات شبحية، لا تُرى ولا تُسمع ولا تأثير لها في ما يجرى على شاشة الأنيمايشن. ويستعير بودريار من كتاب خورخي لويس بورخيس "حول الدقة في العلوم"، وهو مثال لمجتمع ينشئ رسامو الخرائط فيه خريطة مفصلة للغاية بحيث تغطي الأشياء نفسها التي تم تصميمها لتمثيلها. وعندما تتراجع الإمبراطورية، تتلاشى الخريطة في المشهد. وفي مثل هذه الحالة، لا يبقى التمثيل ولا يبقى الحقيقي، فقط هذا "الواقع الفائق".

ونفكّر، في مقابل هذا العالم السحري من حيازة الأرقام دون "مادياتها"، والذي زاره اللبنانيون وأطالوا فيه بقاءهم الطفولي،.. في العالم الذي خرجوا إليه اليوم، عجائز عاجزين، خائبين غاضبين منهارين، مذهولين و"شبيحة" متقاتلين على عبوات الزيت المدعوم في السوبرماركت. هذا العالم خارج "المصارف لاند" يفترض أنه "الواقع"، لكن لا شيء حقيقياً يحكم دينامياته، فوضاه ودماره وموته التام، رغم حركة الناس في الشوارع ودراسة التلاميذ من بُعد، رغم هروب راشدين إلى المطبخ ومشاركة صور أطباقهم في فايسبوك، أو خوض اجتماعات العمل أونلاين. هذا "واقع فائق"، ومن عندنا نضيف: عَدَم. وفي العالَمين، لا قانون ولا دستور ولا حقوق، وبالتالي لا مواطنين. في "المصارف لاند" تفلّت واستقلالية مبتكرة على مثال كواكب "حرب النجوم"، وفي دولة "الواقع الفائق" كل هذه الضوابط الأرضية مجرد أسماء، و"المؤسستان" تحكمان دغلاً من أدغال الحكايات.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024