أهل الضعف وأهل القوة في الساحات اللبنانية

وضاح شرارة

الثلاثاء 2019/11/19
يتعاقب قمم السياسة (اللبنانية) المأذونون، وأهل حلها وعقدها على شاكلة فخامة الرئيس ودولة أو عطوفة الرئيس وسماحة السيد، وألسنة صحافة الوشاة والمخبرين والمعلومات، يتعاقبون على الطلب إلى المتظاهرين والمعتصمين والمخيمين في ساحات المدن والبلدات، وعلى بعض المفترقات، ندب من يمثلونهم إلى محاورة "المسؤولين" القادة والرؤساء. فكرر رئيس الجمهورية الدعوة في خطبته الحاسمة الأولى وفي محاورته المشهودة في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر. وكان سبقه خطيب "المقاومة الإسلامية" الخمينية- الخامنئية إلى الاشتراط على المتظاهرين الإفصاح عن هويتهم من طريق قيادتهم، وذلك في معرض تعريفه هو، من علياء معلوماته، إياهم وبهم: بعض الساذجين "الموجوعين" وركام من "رجال" (ونساء) السفارات والقنصليات والوكالات والجمعيات. وذهب الساسة العراقيون إلى مثل هذا، قبل خطف الناشطين وبعده.

وأبدى الرجلان ومن بعدهما سرية من الإعلاميين المجندين والمدربين، العجب من حركة- يحسن بها أن تكون مطلبية واجتماعية موجوعة ومحقة، وإذا تطفّلت على "السياسة"، أي على القادة ومنظماتهم ومشايعيهم ومداخيلهم ودمهم، وقعت ضحية خطف وانحراف وغدر لا يؤمن شرها على "البلد" والوطن- (حركة) لا قيادة لها، ولا تسبقها قيادتها إلى الإعلان عن نفسها ومجلسها وبرنامجها وحصتها التي ترتضيها من المناصب والعمولات. وبدا أن "الناشطين"، على ما يسمي أنفسهم بعض المتجندين للكلام العام وعلى الشاشات في بعض الأحيان، هم استعارة معنوية للقيادات. فركّب الوشاة والمخبرون ومستودَعو المعلومات روايات عن الجمعيات غير الحكومية وتمويلها الخاص والحكومي ينافس كذبها وخبثها وانتحالها بيانات وزارة الخارجية الروسية في عهد لافروف.

فلا يكاد يقال "ناشط" أو "جمعية غير حكومية" حتى يسيل لعاب المناضلين بأقلامهم، وهم قلة، وبألسنتهم، وهم كثرة كاثرة. فينهشون لحوم إخوتهم الذين يحسبونهم موتى ولا يشبعون. وإذا رأوا أطياف محازبين ظاهري التحزب في ثنايا المتظاهرين والمعتصمين أو على حواشيهم نسبوا الكثرة الغالبة إلى القلة، وأتبعوا النسبة، على سبيل التقدير، بالإذابة. و "حلوا"، على المعنى الكيميائي، الكثرة في القلة، ونفوا عنها الحق في الاحتجاج، وفي التمثيل على مشكلة أو قضية فعلية. وساووا الآلاف الثلاثة أو الأربعة على طريق قصر بعبدا بعشرات الآلاف الذين يطالبون ويحتجون وينددون، في أرجاء الوطن اللبناني، منذ ثلاثين يوماً تامة.

البطل والمستبد العادل
والإلحاح في طلب القيادة والقياديين، وفي إثبات الصدارة والتمثيل والتكليف، مظهر أو عَرَض من أعراض آفة التشخيص السياسية واللاهوتية (الدينية والقومية) المتحدرة من جهالة (=ثقافة) قبلية وسلالية أريستقراطية عريقة. فـ "الملك"، أو الشريف (وشريف الأشراف أو شيخ المشايخ هو الملك أو الرئيس)، هو رأس جماعته وقومه. وجماعته أو أهله هم جسمه وأطرافه وجوارحه، على قول بيولوجي وعسكري معاً. وتفترض الأحزاب والحركات الناشئة في قلب مجتمعات انتفضت على المراتب الأريستقراطية (من الجلالة إلى الشاه)، وألغت الألقاب الدالة عليها، وأحلت محلها الانتخابات "العامة" وأعملت هذه في "تكوين السلطات"- على قول آخر "راعي ماعز" في جبال صنعاء والعراق وسوريا ولبنان وتركيا وإيران...، تفترض هذه الأحزاب المساواة أو الإسوة بين المواطنين أو حتى الرعية.

ورغم هذا، لا تفارق الأفكارَ والمعاني السياسية والاجتماعية الغالبة في مجتمعاتنا "العربية- الإسلامية" وعليها، صورةُ المراتب التي ينطوي أعلاها على أدناها، بلوغاً إلى المرتبة الأعلى. وهذه تمتص المراتب الدنيا كلها، وتجلو مادتها في "شكل مركز وجامع"، على قول ماركس. فيتربّع المرشد، أو الأمين العام، أو السيد الرئيس (وفي بعض الأحيان: السيد نائب الرئيس!)، في سدة "الجلالة" الإنسية، لفظاً وتقية. فليست المساواة، وهي من الأركان أو الأقانيم الديموقراطية، في هذه الحال إلا الدور أو الوقت الذي يمهّد الطريق إلى بسط الرأس القائد سلطانه الطاغي والساحق على ذرات الأفراد والآحاد المتساقطين من أجسام جماعاتهم، والعزَّل تجاه سلطان تشريعي وتنفيذي وقضائي وعسكري وعلمي واعتقادي، معاً وفي آن. ولم يفت من وصفوا أحوال المجتمعات الديموقراطية (مجتمعات المساواة) الكبيرة، في مراحلها المتفرقة، التنبيه إلى حضانتها نازعاً استبدادياً ينتهي إلى القضاء على الوسائط التي تحجز بين المركز وبين الأفراد والآحاد ("ذرات" المواطنين).

وحين أراد معظم متكلمي أو مثقفي المجتمعات "العربية- الإسلامية" المعاصرة وسياسييها تصوّر التقدم، أو النهضة أو الإحياء أو الخروج من التأخر أو الثورة على الانحطاط والتخلّف، حملوا إنجازه على بطل ملهم ينهض من "بطن" الأرض والشعب "الولاّدة"، على قول فلسطيني مرير ويائس. (وذلك على خلاف "الحرية تقود الشعب"، لوحة أوجين دولاكروا المشهورة، حيث "القيادة" لتمثيل مؤنث على صفة أفعال وأحكام وعواطف لا يستنفد التمثيل عليها أحد أو جماعة). وخَلَف "باني نهضة" هذا البلد أو ذاك، في مطارات البلدان، البطل المنتظر أو الفائت. وأدى الاعتدال في طلب البطولة إلى تقديم المستبد العادل، على كراهة الإقرار بالشطر الأول من الاسم، وبالتهامه الشطر الثاني وإلغائه.

وسمع مشاهد شاشات التلفزيون اللبنانية بعض المتظاهرين والمعتصمين، المستَفْتين رأيهم في علاج الضائقة أو الأزمة التي أخرجتهم، يناشدون "قائد الجيش" تولّي الحكم من غير إبطاء، و"تطهير" البلد من الفاسدين. وبعض آخر اقترح الاحتذاء على الرئيس السوري، وفرضه على خاصة "أثريائه" النزول عن جزءٍ من أموالهم، أو على ولي العهد السعودي (من غير تصريح) وحبسه بعض أعيان الثروة في بلده، وإطلاقهم لقاء حصة من ممتلكاتهم. ولم يصدر هؤلاء على الأرجح عن عمالة ولا عن سفارة، فالنازع أو الميل أقدم وأرسخ. ومن القرائن القوية عليه إلحاح فخامته وسماحته ودولته على أهل الحراك في "إخراج" قيادة، على مثال إخراج الجزية أو الضريبة أو الخمس، في مقابل قيادات متينة وحديدية "كلمتها لا ثاني عليها"، لا تُراجع ولا تناقش.

الأفراد الضعفاء...
وتعليل "إعلام" الوشاة والمخبرين التظاهر والاعتصام والاجتماع في الساحات وعلى المفترقات بخطط سابقة، أُعدّت في أروقة سفارات ووزارات، وصناديق مصارف، ومكاتب محطات تلفزيون وأحزاب وجمعيات، يكذبه (يكذّب هذا التعليل الرتيب والفقير) ولادة أبواب الحراك، التظاهر...، بعضها من بعض، وارتجالها فصولها، فصلاً بعد فصل. فتهمة التدبير والتخطيط تشتي بذهنية لا يحتاج تحقيقها مزاعمها إلى معلومات، على المعنى الاستخباري. وقصاراها أن تحتج بالمشاهدات والمرئيات، وتزعم استحالتها، استحالة اتساعها وعرضها وتنوّعها، من غير محرّك خفي يتربّص ويتأبّط شراً بـ "أعلام" الطهارة والشهادة والمقاومة والنزاهة... و"أئمتها". وما يستحيل تعليله بركام أسباب الإدانة والإنكار والشكوى والتظلُّم والضغينة وخوف على مصير الأولاد، والمتطاولة عقوداً خاسرة وعقيمة، يستقيم تعليله ويُستوفى، تاماً ومفحماً، بواسطة اجتماعين أو ثلاثة بين موظفين ديبلوماسيين وإعلاميين سابقين (يفضل أن يكونوا إعلاميات: فهن، في عين الوشاة والمخبرين، أطوع من الذكور، وأميل إلى الافتتان بـ "الغرب" ومماشاته، وكيدهن مشهور...).

ويكذب التعليلَ المزعوم قدومُ معظم المتظاهرين والمعتصمين فرادى وآحاداً، وكلامهم فرادى وآحاداً، وروايتهم أسباب أو دواعي مجيئهم ومشاركتهم وأقوالهم على هذه الصفة، الفردية. وروايات المتظاهرين اللبنانيين "على الهواء" تعلن على الملأ، وعلى نحو لا عهد لنا به ولا عهد به لمحطات التلفزيون، ما كانوا ربما خجلوا بروايته قبل "ثورتهم". فنُشرت خبايا البيوت والأُسر، من أمراض وعجز وعزلة وحرمان وكفاف ويأس وهجرة وانتظار وانكفاء وضغينة، على أشهاد الشاشات. وبدا ذلك إنفاذاً لـ"حق" غريب هو الحق في الرواية. وعرفه الصينيون في أوائل العهد الماوي تحت اسم "حكايا المرارة". ولم يطق الحزب الشيوعي دوامها فحظروا حكايتها. وحكايا المرارة اللبنانية، الحراكية، هي سِيَر المتظاهرين الخاصة (على معنى الفردية)، والعائلية، وبعضها محلي بلدي، يسرد سيرة حائط لم يشيّد، وطريق لم تعبّد، ومجرور لم يُفتح...

وقدوم معظم المتظاهرين والمعتصمين أفراداً ومستقلين بأنفسهم أتاح لهم، في الساحات والمفترقات، الخروج العلني من عصبياتهم والدخول في وطنية متصلة، إن لم تكن بعد جامعة. ويحقق هذا، أي الجمع بين (بعض) الفردية وبين الوطنية الواحدة، ملاحظة تاريخية عامة تشرط بلورة الأمة، على قول أوروبي يلازم بين الأمة وبين الدولة، بإضعاف الأبنية واللحمات والعصبيات الأهلية و "الوسيطة"، على طريق تقويضها. ويخالف هذا النهج، التلقائي والعميق، مقايضة ترك المطالبة ("الإسلامية") بإلغاء الطائفية السياسية لقاء التخلي ("المسيحي") عن طلب جلاء القوات "العربية" السورية عن اللبنانيين. ويخالف نهج تحصيل حقوق الطوائف المهضومة بعضها من بعض واقتسامها، والاستيلاء العددي على مراكز السلطة، وانتخاب "الأقوياء في طوائفهم" وغيرها من كمائن الصيد والإيقاع المتبادلة بين جماعاتنا.

وقد يكون النازع الفردي والسياسي، معاً، رد جواب اللبنانيين، غداة نصف قرن من الاختبارات الحربية الأهلية (و "المقاومة" آخر فصولها وأشدها إمعاناً في التفريق والتضليل وأكثرها رجعية وجموداً)، على نمط القيادات الذي ولدته الحروب الأهلية، اللبنانية والملبننة المتداخلة، ففرادة هذه القيادات في جماعاتها واستقواؤها عليها، و"قداستها" المتعالية، وكاريزماها المفترضة، ومركزتها في يدها الاعتقاد والسلطة والمعاش والقوة والسلاح و "الأمن"، أدت إلى تخريب الاجتماع اللبناني. وأنتجت قياداتٍ هزيلةً لا تصلح ظلاً باهتاً لزعيمها الأوحد، وتفقد جأشها حال نزول عشرات المحتجين إلى الساحات الاجتماعية. وترتب على إعمالها في المجتمعات العربية القريبة الحروب الأهلية المركبة والمتناسلة التي توالي تحطيم سوريا والعراق واليمن، وتنخر أجساماً وطنية إقليمية أخرى. فإن لم ينشأ الحكم عن الانقسام المشروع، وعن الإقرار بالخلاف بين الحاكم وبين المجتمع والأفراد، فمصير الدولة التصدّع "قيادات" بائسة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024