إريك رولو.. ذاكرة القرن العشرين

بشير البكر

الإثنين 2020/05/04
رحل اريك رولو في فبراير/شباط 2015، قبل أن يبلغ التسعين بعام. وكان يتوق إلى عبور هذه العتبة، ورغم أن قامته عالية فإنها لم تساعده على ذلك، بل كانت تعيقه عن البقاء منتصباً على الدوام، حيث عانى في سنواته الأخيرة من آلام الظهر، وأنهكته الأدوية، لكنه بقي يقظاً يتمتع بذاكرة خصبة صافية مثل بركة ماء في رأس جبل. ويعتبر هذا الصحافي المرموق والكاتب الموسوعي والدبلوماسي الانساني، أهم مرجع في تاريخ أحداث الشرق الأوسط خلال القرن العشرين، كونه عاشها من داخلها. وكان رولو الصحافي الأكثر حضوراً في أحداث الشرق الأوسط ومواكباً لها، قريباً من صانعيها الكبار، مثل شارل ديغول، جمال عبد الناصر، فرانسوا ميتران، ياسر عرفات، الحسن الثاني، أنور السادات، الملك حسين، الخميني، حافظ الأسد، بن غورويون وشيمون بيريز، غولدا مائير، اسحاق رابين، والملا مصطفى البرزاني.


وأجرى مقابلات مع كل هؤلاء الزعماء، وبنى علاقات مع أغلبهم تطورت في كثير من الأحيان إلى صداقات كما هو الحال مع ميتران والقذافي وعرفات. وسجل رحلته الطويلة في مذكراته التي صدرت بالفرنسية تحت عنوان "كواليس الشرق الأوسط: 1952-2012"، والتي لاقت رواجاً كبيراً.

قابلت أريك رولو أول مرة سريعاً، في بيروت، مطلع العام 1982، في صحيفة "السفير"، وكان قادماً من طهران، حيث كان يغطي لصحيفة "لوموند" الفرنسية، الحرب العراقية الايرانية من جهة إيران، وزميله بول بالتا كان يقوم بالدور نفسه من جهة بغداد. وفي لقاء في مكتب بلال الحسن، كان رأيه أن الحرب ستطول لأن الطرفين بحاجة لاستمرارها لأسباب داخلية، وهناك تغذية وتمويل إقليمي ودولي لها، وعلى نحو خاص من طرف السعودية. وفي تلك الزيارة كان رولو، زار عرفات وصلاح خلف (أبو أياد)، الرجل الثاني في حركة فتح، والذي سبق أن أنجز معه حواراً شاملاً وطويلاً، توقف أمام محطات حياة أبو اياد، ومنه ذهب نحو النكبة ونشوء المقاومة وحركة فتح، ونشره في كتاب "فلسطيني بلا هوية"، وظل رولو يعتبره من أهم الأعمال التي قام بها خلال مسيرته الصحافية. وبفضل هذا العمل، نشأت بينه وبين أبو إياد، علاقة مودة ولقاءات دائمة، استمرت حتى اغتيال القائد الفلسطيني في تونس العام 1991. وكان حزن رولو على أبو إياد كبيراً، وبقي بالنسبة إليه أحد أبرز الشخصيات التي عرفها الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، بمعية عرفات وأبو جهاد.

ورغم أن رولو يعرف عرفات جيداً، ويقدر مواهبه القيادية وحنكته السياسية، لكنه كان يحمل نظرة خاصة إلى ابو إياد، الذي كان رجلاً نوعياً لا يمكن اختصاره في وزير داخلية. والمرة الثانية التي التقيت فيها رولو، كانت في يونيو/حزيران 1986، في مكتبه في السفارة الفرنسية في تونس، وكان قد أمضى عاماً في هذا المنصب، حيث عينه صديقه الرئيس ميتران سفيراً من خارج الكادر الدبلوماسي، وهذا أمر نادر في فرنسا ولا يحظى به إلا الأشخاص الذين يمثلون قيمة وإضافة خاصة للمنصب. وحين طلبتُ اللقاء معه، كان الوضع في تونس يشهد صراعاً على خلافة الرجل المريض، الرئيس الحبيب بورقيبة، الذي تجاوز عقده الثامن بقليل، بين فريق زوجته وسيلة، وفريق رئيس الوزراء محمد مزالي، وفريق آخر في الظل من المخابرات يمثله وزير الداخلية زين العابدين بن علي. وفي ذلك اللقاء، وضعني رولو في صورة المعلومات التي كانت في حوزته عن صراع الخلافة، وكتبتُ مقالاً أرسلته إلى الصحيفة التي كنت أعمل فيها (مجلة اليوم السابع الأسبوعية) وتصدر من باريس. والطريف في الأمر أن المقال صدر في الصحيفة يوم الجمعة، وهي توزع في الأسواق يوم الإثنين حسب قانون الصدور، لكن الأمن التونسي، بأمر من مزالي، اعتقلني يوم السبت، وكان يصادف أول أيام عيد الفطر، وأراد أن يسفرني إلى سوريا. لكن تدخلات عديدة حالت دون ذلك، ومنها الضغط الذي مارسه عرفات ورولو على مزالي فرُحلتُ إلى باريس. وبدوره لم يمكث رولو طويلاً في تونس، فعاد إلى الخارجية الفرنسية بعد خلاف مع رئيس الحكومة حينذاك جاك شيراك، وبقي بصفة سفير متجول من باريس حتى العام 1988 حين عينه ميتران سفيراً في تركيا حتى العام 1991.

وحتى العام 1988، كنت التقي رولو بشكل دائم، وأجريت معه حوارات عديدة في "اليوم السابع" حول تطورات الحرب العراقية الإيرانية والقضية الفلسطينية. وفي هذه الفترة، كان رولو دائم الحركة بين عواصم المنطقة، من بيروت الى طهران وطرابلس وبغداد وتونس ودمشق. وكان ميتران يكلفه بمهمات خاصة، مستفيداً من علاقاته الواسعة الرسمية، وغير الرسمية.


وكان ميتران، بذكائه الثاقب، يدرك قدرات ومواهب رولو، ويقدر صلاته ومعارفه، وأعطى أهمية إلى ما يميز رولو عن غيره من الصحافيين والخبراء والديبلوماسيين بأنه يحقق الثلاثة معاً، بالاضافة إلى أنه رجل مسيس. إلا أن رولو كان من نمط الصحافيين الذي تكون على أرضية عالمثالثية، ولذلك كانت مقالاته في صحيفة "لوموند" خلال الصراع في الكونغو العام 1960، بعكس التيار، حيث أيد الحركة الاستقلالية بقيادة الزعيم باتريس لومومبا في موقف يخالف الموقف الرسمي للدولة الفرنسية، والأمر ذاته بالنسبة إلى الثورة الجزائرية، ومصر التي دعته بطلب من الرئيس عبد الناصر، وهي تعلم انه يقف إلى جانب حقوق الانسان في مصر ويتضامن مع ضحايا عبد الناصر، لكنه تضامن مع مصر في معاركها مع إسرائيل وفرنسا وبريطانيا خلال العدوان الثلاثي.

وتأثر رولو بفكر يسار الخمسينات في مصر التي غادرها في العام 1951 أيام الملكية بعد مضايقات بسبب اجراء حوار مع حسن البنا في "الجريدة المصرية"، وزارها بعد منع طويل في العام 1963، بدعوة من عبد الناصر الذي كان يريد أن يوجه من منبر صحيفة "لوموند" رسائل إلى ديغول، حينما كانت العلاقات بين فرنسا ومصر في أسوأ أحوالها بسبب دعم مصر للثورة الجزائرية. وحين قبل رولو الدعوة، وضع شروطه. أن تقبل القاهرة بأن تكون التكاليف على نفقة "لوموند"، وأن يكون رولو حراً في لقاءاته واختيار موضوعاته، ولذلك لم يغفل قضية السجناء السياسيين والتصفيات التي طاولت الرموز، ومن بينهم أصدقاء له، مثل الطبيب فؤاد حداد، والقيادي الشيوعي شهدي عطية الشافعي الذي بقي رولو يكن له تقديراً خاصاً. وقال إنه، حين التقى عبد الناصر، تردد في إثارة إعدام شهدي عطية، رغم أنه طرح المسألة قبل ذلك مع محمد حسنين هيكل ولطفي الخولي (كان يعمل محرراً في "الأهرام") ولم يكن رد فعلهما سلبياً. وكان يخشى أن تُفسد مفاتحة عبد الناصر بالموضوع، المقابلة، وفوجئ أنه، حين طرح الموضوع، كان رد فعل عبد الناصر إيجابياً، بل ذهب أبعد حين أعلن أنه سيصدر عفواً عن الشيوعيين، وهذا يعني أن هيكل ولطفي الخولي وضعاه في الصورة. وبدا عبد الناصر في الحديث عن هذه النقطة، متفهماً لموقف رولو من مسألة التصفيات التي طاولت اليسار المصري من قبل أجهزة المخابرات.

عكف رولو على كتابة مذكراته، منذ أن تقاعد رسمياً العام 1991، وسجل فيها شهادة على قرابة نصف القرن العشرين، بدءاً من يوم بدأ الصحافة في مصر مبكراً، واضطراره لمغادرة بلده العام 1951 بعد المضايقات التي تعرض لها بسبب مقابلة زعيم "الإخوان" حسن البنا. ورغم أن رولو عاش بعد ذلك، بعيداً من مصر، فإنه بقي مصري الهوى، ويتابع ما يحصل في مصر، ومن قراء الصحف والآداب ومشاهدي السينما، ونظم حفلة في منزله دعا إليها ضيوفاً من مصر ومن جنسيات أخرى، على شرف السينمائي يوسف شاهين بمناسبة تكريمه في مهرجان "كان" العام 1979. وكانت جلسة مصرية بامتياز، حضرت فيها ذكريات مصر الستينات على وجه الخصوص.

وقبل أن يرحل ميتران في يناير/كانون الثاني 1996، بوقت قصير، كنت على موعد مع صديق في مقهى "فلور" في سان جيرمان، فوجدتُ رولو وميتران يتجاذبان أطراف الحديث، وكان الرئيس السابق يبدو كهلاً جداً بعدما صار خارج السلطة، ولم يمكث طويلاً حتى رحل، لكن الصحافي والكاتب عاش بعد ذلك. وحين سألتُ رولو عن موضوع الحديث، قال: إن ميتران كان منشغلاً بمتابعة وضع الشرق الأوسط، ويسأل عن القضية الفلسطينية، كوني أثّرت في مواقفه كثيراً، وكان لي الدور الأساس في إجلاء ياسر عرفات من طرابلس العام 1983 على متن سفينة فرنسية بحماية الحاملة الفرنسية كليمنصو، في وقت كان النظام السوري يريد تصفيته في ميناء طرابلس.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024