عماد الدين رائف
أتذكُرُ يا جنكيز يوم احتضنتنا بيروت معًا،
كيف سرى من البحر والسماء
ضوءٌ أزرقُ باهتٌ،
والشوارعُ جذبتنا إليها؟
**
وهبَتنا المدينةُ حضنًا رحبًا هادئًا
متألقًا بجماله ليلَ نهار
كانت تعتبر باريس الشّرق
وأنا شخصيًّا كنت مؤمنًا بذلك
**
تزاحمتِ أعلام الدّول في مينائها
وعلى الشاطئ ازدحم السيّاح والباعةُ،
وهل سننسى النساء، بأثوابهن المزركشة
من قبائل شتّى، يتبخترن كحوريّات؟
**
وذاك، العربيُّ المتجه إلى الكازينو،
حملته سيّارة فاخرة من الفندق،
ومدّ يده بباقة زهر إليهنّ من الشبّاك:
أنا سعادتُك يا سيّدتي، يا سنيورا
**
هنا حيث الأبنية تحمل إعلانات ضخمة
مضيئة مذهّبة من الأرض إلى السطوح،
توحي بأنّ المدينة كلّها تخضع لها
لسيطرة الحِرَفِ والخدمات والتجارة
**
"اشتري، يا سيّدتي، هذا السوار النادر
فسعره رائع جدًا ومناسب"
"رفضُك لشرائه كرصاصة في قلبي،
سأخفّض السعر، كما تشائين".
**
هنا، لم يقتحمْ أحدٌ المنازل مهدّدًا
هنا، كانت أشعّة القمر تهزُّ مهود الأطفال
لن أنسى تلك الليلة التي قضيناها
في النادي الأرمني وسهرنا معًا
**
وأحدُهم، خلف الطاولة صاحَ: فلنغنّ!
وبعدذاك فاضَ صوتُه بسخاء
وغنّى الأرمن عن شيء ما يعنيهم
لكنّ الفرحة فاضت عنهم فشملتنا
**
أتذكرُ لبنانيًّا بصليبٍ على صدره
في الحانة خلف المشروبات اللاهبة
يجلس مع مسلمٍ محمّديّ
وكلاهما متألقٌ بفرح صادق؟
**
وحدّثانا بلهجتهما الواحدة
عن بلدهما اللطيف الفريد
ووصلت على آذاننا تناوبات أصوات
جرسُ كنيسة ونداءات ومؤذّن
**
"أتذكُرُ يا جنكيز!"، صرختُ غير مرّة
مستحضرًا لبنان الذي كان
عندما وصلنا إلى بيت جنبلاط
وعلى شرفنا ذبح الخراف
**
وغطّت قمم الجبال ثلوجٌ فضّية
وكانت سفوحها مسالمة آمنة
وكان الأمنُ ممسوكًا، كثورٍ من قرنيه،
في دولةٍ رأس حكومتها كرامي
**
لكنّ نجمًا خبا في الظلام،
واستمرّت تلك اللحظة القاسية أبدًا
اغتيل جنبلاط – صديقنا –
ولم تعد بيروت كما كانت
**
حيث كان اليهود والعرب
يحيّون بعضهم البعض – سلامًا بسلام
ولمْ يلجأوا إلى السلاح والنّار
بل عاشوا وتجاوروا.. لكن ذلك اختفى
**
هنا، حيث بات السوادُ يُغطّي وضوح النهار
وعبر قعقعة أسمعُ صوتًا فلسطينيًا
يسألني عنك: "قل ليْ
هل أتى أيتماتوف معك؟".
**
"لم يستطعْ هذه المرّة – أجبتُ الصوت –
هو يكتب الآن على ضفاف إيسكول".
وفجأة أرى فتاة شائبة في مقتبل العمر
تركض مبتعدةً بين زخات الرصاص
**
هنا حيث يخرج الدخان من شقوق الجدران
الحربُ تُغنّي بصوت خفيض،
مذهولةً بحزن جارف
تهزّ مهود أولادها القتلى
**
فوق كل سطرٍ أكتُبُهُ سأعلّق حزني
هنا، حيث كنّا معًا
وفي قلبي اليوم يا جنكيز
أحملُ حُصّتَك من الألم
**
من الرابحُ هنا – قلْ لي وحلّلْ
أي إرادة شيطانيّة حلّت
ليتبادل لبنانيان النار
أحدهما بصليبٍ وآخر بعمامة؟
**
يتسابقون إلى المعركة عند الإشارة
وكلّهم في العناد سواء،
ينسون أن محمّدًا بجّل المسيح،
وكذلك لم يرفضه إبراهيم.
**
وإذا ما اخترقت صدري رصاصةٌ هنا
وكان جرحها قاتلًا
أنا أعلمُ، يا جنكيز، أنّ الطريق ستقودك
على الفور إلى عاصمة لبنان
**
أتعرفُ، لقد رأيتُ بيروت الشاهدة
في الأمس في منامي غير مقسّمة،
والأولاد، كلّ الأولاد تحت قوس قزح
يتعانقون معًا.