المجاهد المزوّر الثوري الذي أنقذ يهود العالم وثوار الجزائر

روجيه عوطة

الجمعة 2019/06/28
ثمة أبطال في عالمنا، من سماتهم وشيمهم أنهم مجهولون، إذ أنهم أقدموا على أفعالهم الشجاعة، وصنعوا التاريخ بلا أن يعلموا، وبلا أن يتباهوا بذلك بعد علمهم به، بل أنهم واصلوا العيش، وكما دائماً، في ظلالهم. أدولفو كامينسكي، المزوّر والمصور، بحسب تقديمه من قبل المعرض المنظم عنه في "متحف فن اليهودية وتاريخها" في باريس، هو حتماً من هؤلاء. ولأن المنيّة لم تُوافِه بعد، فهو بمثابة بطل حيّ.


في العام 1943، وفي شارع من شوارع الدائرة 17 في باريس، كان كامينسكي يجلس في مختبر سري تابع لمجموعة من شبيبة المقاومة الفرنسية، ينجز التالي: تزوير أوراق رسمية من أجل اليهود في المدينة، فيما كان بوليس بيتان يعتقلهم ليرسلهم إلى معسكرات الإبادة وأفرانها. بتلك الأوراق، التي كان عليه أن يصنعها بتأن ودقة لكي لا يُكشف أمر أصحابها فيُقتلون، أنقذ كامينسكي حيوات الآلاف، ومن بينهم الكثير من الأطفال، بحيث أنهم، وبواسطة بطاقاتهم وجوازاتهم الجديدة، استطاعوا أن يهربوا ويجتازوا الحدود إلى بلدان أخرى، لا سيما سويسرا. 

لم يكن كامينسكي ينام، لأن النوم ساعة يعني عشرات القتلى، وهو الذي شهد بعينيه، التي انطفأت إحداهما بأثر من السهر الكيميائي، على سَوق الكثير منهم إلى حتفهم. إذ أنه كان في السابق قد وقع في الأسر، واقتيد إلى درانسي، مع كل أفراد عائلته المتحدرة من أصل روسي قبل أن تصير الأرجنتين ثم فرنسا منفاها. الا أنه نجا، ومن بعد نجاته، مضى إلى عمله، أو بالأحرى إلى مهمته التي لم يتقاض في يوم من الأيام أجراً عليها، بل مارسها من تلقاء نضالي، شيوعي المنشأ، لأن والده كان يهودياً أحمر، ومن وسع منعتق، لأنه تعلم، منذ صغره، أن الحرية هي قلب الحياة. 

بعد الحرب، أبقى كامينسكي على مهمته، وقد وظفها من أجل إسعاف اليهود المتروكين بعد نجاتهم للبؤس والوحشة في المعسكرات، بحيث أمّن لهم أوراقاً تسمح لهم بالهجرة والتلاقي. وبالتوازي مع هذا، ومن بعده، ولأننا كلنا يهودي ألماني على قول شعار من شعارات أيار68 (يصح ترهينه حالياً بقلبه إلى "كلنا سوري")، وضع كامينسكي قدرته الإبداعية في خدمة قضايا عديدة، تدور في أنحاء العالم.

فقد زوّر أوراقاً ثبوتية من أجل الجزائريين الملاحقين خلال ثورتهم، ووضع خطة لتزوير العملة الفرنسية وضخها في السوق، في حال قررت الحكومة آنذاك استكمال الحرب. بسبب معاونته الجزائريين، لُقّب كامينسكي بالمجاهد، وقد دعاه رفاقه إلى "البليد" مرات عديدة، فزارها وافتتح فيها مختبرات لمساعدة العمال. مكث هناك فترة، لا سيما بعدما تزوج من الرفيقة ليلى، ثم غادر مع صعود التطرف الإسلامي. بالإضافة إلى ذلك، وقف كامينسكي ضد الدولة الصهيونية، ووضع تزويره من أجل حركات التحرر في أميركا اللاتينية، البيرو، وكولومبيا، وأورغواي، وفي أفريقيا، انغولا، وطبعاً، الجنوب خلال الابارتهايد، وفي أوروبا، اسبانيا ضد حكم فرانكو، أو فرنسا إلى جانب العمال والطلاب. فهو كان قد زور ذات يوم بطاقة هوية لدانيال كوهن بندت مثلاً. 

في أواسط السبعينات، ألقى كامينسكي سلاحه، أي التزوير الثوري، ليحمل سلاحه الآخر، وهو التصوير الفني الذي لطالما استخدمه في شوارع باريس خلال الحرب وبعدها. صُوره تبيّنه على منظور حاد، يتصل بنضاله بالتأكيد، فينطوي على وجهة توثيقية. لكنه، وعندما يثبت مشهداً، يفعل ذلك على تجميل بعينه، وهو تجميل التلاشي، لينقلب بقاء بملمح، كما في البورتريهات، أو بضوء يزيح العتمة، أو يلبسها ليلتمع، كما في التقاط تفصيل من محل حلاقة قديم في "بيغال" الباريسية. فتصوير كامينسكي كناية عن تزوير أيضاً. تزوير لا ينقذ، هذه المرة، من الابادة، بل من التبدد، وفي كل حالاته، هو الفن!

علاوة
في العام 2009، نشرت ابنة أدولفو كامينسكي، الممثلة والكاتبة سارة كامينسكي، رواية بيوغرافية عن والدها بعنوان "أبي، هذا المزور"، الذي أدركت بطولته بالمصادفة. وعبر منصة "تيد" في باريس العام 2010، قدمت هذه الخطبة عنه: 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024